كثيرة الأسئلة التي طُرحت منذ أن شنت "كتائب القسام" التابعة لحركة "حماس" هجوم 7 أكتوبر الذي أسمته "طوفان الأقصى" ضد مواقع عدة في منطقة غلاف قطاع غزة. أسئلةُ طُرحت، ومازال بعضها مثارًا، عن التغيير الذي أحدثه ذلك الهجوم في طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والآثار المترتبة عليه في قطاع غزة والضفة الغربية، وفي منطقة الشرق الأوسط عمومًا. وأسئلةُ أخرى مطروحة عن مستقبل هذا الصراع وما سيكون عليه الوضع في غزة عقب انتهاء الحرب التي اقتربت من دخول عامها الثاني أو ما يُطلق عليه اليوم التالي.
وأُضيفت إليها في الأيام الماضية أسئلة عن تداعيات الصراع بين إسرائيل و"حزب الله" في لبنان, وتوسع المعارك التي بدأت محدودة في المناطق الحدودية وصولاً إلى اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله ، وازدياد احتمال الحرب الشاملة التى قد تحمل في طياتها خطر اندلاع حرب إقليمية مدمرة.
هذه وغيرها أسئلة طُرحت، ومازال أكثرها مطروحًا، عما جرى منذ إعلان إسرائيل الحرب التي سمتها عملية "السيوف الحديدية" فور وقوع هجوم 7 أكتوبر. غير أن ثمة سؤالاً يسبقها كلها زمنيا لم يلق اهتماما مماثلا أو كافيًا، ومازال جوابه يتطلب اجتهادًا موضوعيا بعيدا عن السجالات السياسية والأيديولوجية. إنه السؤال عن هجوم 7 أكتوبر نفسه وهل دُرس قرار شنه دراسةً كافية، وهل توقع مخططوه ومنفذوه كل هذه الخسائر الفادحة التي ترتبت عليه في قطاع غزة، وفي أجزاء من لبنان؟
إنه السؤال عن هجوم 7 أكتوبر نفسه وهل دُرس قرار شنه دراسةً كافية، وهل توقع مخططوه ومنفذوه كل هذه الخسائر الفادحة التي ترتبت عليه في قطاع غزة، وفي أجزاء من لبنان؟
قليلة المعلومات الموثوقة المتوافرة عن الظروف التي اتُخذ فيها قرار هجوم 7 أكتوبر، والطريقة التي فكر بها من وضعوا خطته. القدر المتيقن أن القرار اتُخذ في دائرة بالغة الضيق في قيادة حركة "حماس" و"كتائب القسام" في قطاع غزة تحديدًا، وفي أجواء من السرية الشديدة، وأن التخطيط له بدأ قبل تنفيذه بشهور عدة وربما طويلة، بل يعتقد بعض المراقبين أن التدريبات عليه استمرت أكثر من عامين وإن لم يعرف المتدرِبون والمُدرِبون الهدف المحدد منها. والمفترض في هذه الحالة أن تسفر التدريبات في النهاية عن اختيار المجموعات المقاتلة التي عُهد إليها بالتنفيذ، وأن تعلم بطبيعة العملية وخطتها وتفاصيلها قبل إطلاقها بوقت قصير جدًا. ويُستدل على استمرار هذا التخطيط لشهور طويلة من امتناع حركة "حماس" عن المشاركة الفعلية في المعارك الحدودية التي نشبت بين حليفتها حركة "الجهاد الإسلامي" وإسرائيل في مايو 2023، والاكتفاء بمشاركة رمزية من خلال غرفة العمليات المشتركة للفصائل الفلسطينية، فلم يكن لحركة "حماس" أي حضور عسكري على الأرض خلال الأيام الأربعة التي استغرقها القتال برغم نجاح إسرائيل في اغتيال عدد من قادة حركة "الجهاد" و"سرايا القدس"، قبل أن يتمكن الوسطاء المصريون من التوصل إلى وقف لإطلاق النار في 13 مايو/آيار.
والمفترض أن يكون طول فترة الإعداد للهجوم قد أتاح فرصا لدراسة آثاره المحتملة وعواقبه، والرد الإسرائيلي عليه. ومن أهم ما يتعين بحثه في هذا السياق هو ما إذا كانت أي إنجازات يمكن أن يحققها الهجوم تفوق الخسائر التي تترتب عليه أم العكس.
يصعب تصور أن يكون من خططوا للهجوم توقعوا الدمار الشامل الذي لحق بقطاع غزة وتحوله إلى مكان غير قابل للحياة بفعل الرد الإسرائيلي غير المسبوق في تاريخ الصراع منذ 1948
ويصعب تصور أن يكون من خططوا للهجوم توقعوا الدمار الشامل الذي لحق بقطاع غزة وتحوله إلى مكان غير قابل للحياة بفعل الرد الإسرائيلي غير المسبوق في تاريخ الصراع منذ 1948. ولعلهم تصوروا أن الحرب التي ستترتب على هذا الهجوم لن تختلف كثيرًا عن سابقاتها في قطاع غزة منذ عام 2009، وأن اختلافها قد يكون كميًا وليس نوعيًا. وهناك ما يدل على أن طموحهم كان كبيرًا كما يُفهم من البيان الصوتي الذي أذاعه قائد "كتائب القسام" محمد الضيف فجر 7 أكتوبر، إذ دعا إلى اتحاد ما سماَّها كل القوى العربية والإسلامية "لكنس الاحتلال في مقدساتنا وأرضنا"، وحثَّ المقاومة في لبنان والعراق وسوريا واليمن على "الالتحام مع مقاومة فلسطين", وطالب "كل من عنده بندقية بأن يخرجها". ولكن الاستجابة اقتصرت عل فتح حزب الله ما سماَّها جبهة إسناد صارت فيما يبدو فخًا له, إذ أدى استمرارها إلى إضافة هدف جديد للحرب الإسرائيلية هو إعادة سكان الشمال الذين نزحوا، إلى جانب محاولات جماعة "أنصار الله" الحوثية منع السفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر وإطلاق صواريخ أو مسيرات باتجاهها من وقتٍ إلى آخر، مع مشاركة رمزية لبعض الفصائل العراقية.
غير أن هذا الطموح الزائد لا يعني بالضرورة شن هجوم غير محسوبة عواقبه، ولا استعداد للتضحية ليس بقطاع غزة فقط، بل بالقسم الأكبر من قدرات بشرية وتسليحية بُذلت جهود هائلة من أجلها طول أكثر من عقد ونصف العقد على الأقل، أي منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة عام 2007، فضلاً عن سلطة بات أكيدا أنها لن تستمر عقب انتهاء الحرب في أي ترتيب لأوضاع ما يُسمى اليوم التالي.
المفترض نظريا إذن أن مخططي هجوم 7 أكتوبر ليسوا مغامرين أو مقامرين مستعدين للتضحية بمقاتليهم وأسلحتهم التي يتعذر تعويضها وسلطتهم التي حافظوا عليها 17 عاما، وربما أيضا ببيئة مجتمعية احتضنتهم طول هذه الفترة، وقد لا تبقى كذلك، من جراء المعاناة الإنسانية الناتجة من قصف مستمر على قطاع غزة ونزوح شبه متواصل لكثير من سكانه من منطقة إلى أخرى بحثًا عن مكان آمن لم يوجد أبدا. والمفترض كذلك أنهم, وهم المنخرطون في الصراع منذ نعومة أظفارهم، يعرفون أن تكلفة كسر قوة الردع الإسرائيلية لا يمكن إلا أن تكون أكبر مما يمكن أن تتحمله "حماس" ولا الشعب الفلسطيني. فهذه القوة هي أهم ما تملكه إسرائيل باعتبارها حاصل جمع كل ما لديها من قدرات عسكرية واستراتيجية واقتصادية وتكنولوجية.
وإذا صحت هذه الافتراضات، التي تبدو معقولة ومنطقية، فلماذا خُطط لهجوم يؤدي إلى ما لا طاقة لهم به، ولا قدرة لأحد في العالم حتى الآن على وقفه أو وضع نهاية له؟ السؤال منطقي أيضا. وجوابه صعب جدا. ولكن هذا لا يمنع الاجتهاد سعيًا إلى تفسيرٍ لما حدث، وكيف. وربما نجد بداية لهذا الجواب في الأثر الهائل الذي أحدثه هذا الهجوم.
فيقوم هذا التفسير على أن أثر الهجوم كان أكبر، وربما بكثير، مما خُطط له وأُريد تحقيقه، لأن القوات الإسرائيلية التي هوجمت لم تكن مستعدة له. فقد تبين أنها كانت قوات محدودة لم تُبلغ باحتمال وقوع هجوم، وهو ما اعتُبر في إسرائيل فشلاً استخباراتيا أكبر مما حدث في حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، وبدأت تحقيقات فيه.
ويبدو أن قيادة حركة "حماس" تمكنت من خداع أجهزة الاستخبارات والأمن الإسرائيلية في الفترة السابقة على الهجوم، عندما أظهرت أنها ليست معنية بمواجهة عسكرية جديدة، وأن تنمية قطاع غزة تمثل أولوية لديها. ويبدو أن رسائل زعيم الحركة محمد السنوار في هذا الاتجاه خدعت إسرائيل، التي استجابت لها عبر إجراءات من أهمها السماح بزيادة عدد عمال قطاع غزة الذين يعبرون للعمل فى بعض مستوطناتها. ويبدو أيضا أن تنامي الاهتمام بما تعتبره إسرائيل خطرا إيرانيا أسهم في الاستهانة باحتمال شن هجوم من قطاع غزة نتيجة توجيه الاهتمام كله أو معظمه في اتجاه آخر.
والأرجح أن عدم الاستعداد الإسرائيلي هذا هو ما أدى إلى زيادة الخسائر البشرية والمعنوية التي أحدثها الهجوم أضعافًا مضاعفة، لأنه أتاح للمجموعات المهاجِمة أن تتوغل وتصل إلى مواقع لم تُدرج في الخطة الأصلية، عندما وجدت الطرق مفتوحة أمامها. كما شجع مجموعات من فصائل فلسطينية أخرى بل بعض أهالي القطاع المدنيين أيضا على الدخول والعودة بأسرى، بعد كسر مساحات أكبر من السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل. كما بقى بعض المهاجمين في داخل إسرائيل لأكثر من يومين، وهو ما لا يُتصور أنه كان مخططًا له، وحتى عندما أخفقت إحدى المجموعات المهاجمة في بلوغ هدفها في سجن شيكا في عسقلان لتحرير الأسرى المحتجزين فيه بسبب خطأ تقني في جهاز التوجيه، وجدت الطريق مفتوحًا نحو مستوطنتي ياد مردخاي ونتيف هستراه حتى وصلت إلى مستوطنة سديروت.
التفسير المحتمل إذن هو أن ما حدث في 7 أكتوبر تجاوز الخطة الأصلية التي ربما وُضعت على أساس أن المجموعات المهاجمة ستخوض اشتباكات صعبة مع الفرقة 143 "فاير فوكس" المعروفة بفرقة غزة، وتفقد عددا كبيرا من أفرادها، وأن يعود الباقون ببعض الأسرى لإرغام إسرائيل على عملية تبادل كبيرة، إلى جانب الحصول على القرص الصلب "الهارد" الموجود في كومبيوتر رئيسي في مركز استخباراتي قريب، والإفراج عن الأسرى في سجن شيكا.
التفسير المحتمل إذن هو أن ما حدث في 7 أكتوبر تجاوز الخطة الأصلية
وليس متصورا كذلك أن يكون واضعو الخطة توقعوا أسر نحو مائتين وخمسين إسرائيليا وإسرائيلية، بل الأقرب إلى المنطق أنهم لم يسعوا إلى ذلك. فكلما ازداد عدد الأسرى لديهم تفاقمت تكلفة الهجوم الذي أدى إلى أسرهم، وقلت فرصة مبادلتهم بأسرى فلسطينيين. فالمنطقي أن يرتبط ازدياد عدد الأسرى بارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين، وشعور جارف بالإهانة يدفع إلى رد انتقامي شديد العنف لم يخل من هستيريا في بعض جوانبه.
ولا يُتصور أن هذا ما سعى إليه مخططو الهجوم أو استهدفوه. ولو أن عدد الأسرى عشرة أو حتى أقل، لكان أجدى للحركة. ولكن يبدو أن ما حدث كان أبعد بكثير مما تصوروه ربما لضعف قدرتهم على تحديث المعلومات المتوافرة لديهم عن حجم القوات الإسرائيلية الموجودة في المناطق المُستهدفة بالهجوم ونوعها أولاً بأول، ومن ثم تطوير الخطة بما يتلاءم مع الواقع. ولهذا لم يُحسب حساب احتمال أن تكون هذه القوات محدودة وفي حالة استرخاء، ولم يُزود المهاجمون بالتالي بتعليمات تقضي بعدم تجاوز ما طُلب منهم، والامتناع عن التوغل واستهداف مستوطنات خارج نطاق الخطة وإطلاق النار على الموجودين فيها.
وليس هذا إلا اجتهادًا في تفسير ما حدث في يوم ليس كغيره من أيام الصراع الطويل الذي باتت تسويته أصعب من أي وقت مضى منذ أن بدأت محاولات تحقيق السلام في المنطقة مع مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات عام 1977.