"المجلة" في الضاحية الجنوبية لبيروت... أنقاض ونزوح وأسئلة عن المستقبل

هذه المرة التدمير ممنهج وأكثر تركيزا

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل يمشي وسط الدمار الذي خلفته الغارة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت ليلا حي حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، 3 أكتوبر

"المجلة" في الضاحية الجنوبية لبيروت... أنقاض ونزوح وأسئلة عن المستقبل

في الأصل، ليست الضاحية تجمعا سكانيا هامشيا على مدخل بيروت الجنوبي، وليس هذا اسمها في سجلات المدن والبلدات اللبنانية. هي مجموعة من البلدات والبساتين والسواقي لها أسماء وكيانات وسياقات اجتماعية خاصة، تنتمي جغرافياً إلى منطقة ساحل المتن الجنوبي وتتبع إداريا لقضاء بعبدا، لكنها أخذت تكتسب هذا الاسم أو هذه الصفة مع بداية تحولها منتصف السبعينات إلى ملجأ للهاربين من الحرب الأهلية وتقسيم بيروت إلى شرقية وغربية، ونزوح أهل الجنوب بفعل الحروب الإسرائيلية وأهل البقاع بحثا عن رزق أوفر.

قبل أن تصبح الضاحية "عاصمة الشيعة" في لبنان وثقلهم الديموغرافي وقاعدتهم الأيديولوجية والسياسية، كانت تحتضن تجمعا طائفيا متنوعا وعيشا مشتركا وتعددية سياسية، وقبل أن تتحول إلى غابة من الباطون العشوائي، كانت رئة خضراء تنعش أنفاس البيارتة والجوار، فيقصدونها طلبا للراحة والاستجمام.

في بداية عقد الثمانينات سيطرت حركة "أمل" على الضاحية، وفي نهايته سيطر "حزب الله" بعد معارك دامية بينهما أُطلق عليها اسم "حرب الإخوة"، بعدها بدأت الضاحية تميل إلى أن تصبح قطعة من إيران داخل لبنان، سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، ففقدت خلال هذه المدة شخصيتها وهويتها بالتدريج. باغتيال الرئيس رفيق الحريري وتشكيل الائتلاف السياسي الحديدي المعروف بـ"الثنائي الشيعي"، انفتحت أبواب الضاحية مجددا أمام جماعة "أمل"، لكنها بقيت تحت سطوة "الحزب".

أطلق الثنائي على الضاحية أسماء كثيرة بحسب الظرف السياسي، الحركة تسميها الضاحية الشموس، و"الحزب" يسميها ضاحية العزة والكرامة، وفي الظروف الاجتماعية حين يرغب الطرفان في اتهام الدولة بسياسة الإنماء غير المتوازن، يستخدمان عبارة الضاحية الضحية.

والضاحية هذه الأيام ضحية فعلا، ضحية حرب بين جبابرة يتصارعون في ما بينهم للسيطرة على المنطقة، حرب عرفنا بدايتها لكن نهايتها لا أحد يعلم إلى متى ستظل مفتوحة.

أ.ف.ب
رجل يمشي وسط أنقاض مبنى دمرته غارة جوية إسرائيلية استهدفت حي معوض في الضاحية الجنوبية لبيروت في 3 أكتوبر

من يدخل إلى الضاحية بعد سلسلة الاستهدافات التي طالتها وهجرت سكانها ودمرت جزءا كبيرا من معالمها، يدرك حجم النكبة التي أصابتها، إن كان على صعيد الحرب التي تُركت فيها وحيدة مثل شقيقتها غزة، أو على صعيد الخسارات التي تكبدتها حتى الآن في الأرواح والممتلكات.

سوى أعداد القتلى والجرحى، لم تتكلف أي جهة رسمية حزبية أو حكومية، بإحصاء أعداد النازحين من الضاحية، ولا من بقي فيها حتى الآن، ولا حجم الخسارات المادية التي تسببت بها الغارات الإسرائيلية، ربما لأن "الحزب" الذي يحكم الضاحية، لم يعد يملك الإمكانات ولا القدرة على التحرك، وربما لأن الدولة كعادتها غائبة أو مغيبة عن الضاحية، وربما وهو السبب الأهم أن الحرب ما زالت في بدايتها وأن عداد الخسارات لم يتوقف بعد، بل هو إلى ارتفاع لحظة بلحظة.

قبل أن تصبح الضاحية عاصمة الشيعة في لبنان وثقلهم الديموغرافي وقاعدتهم الأيديولوجية والسياسية، كانت تحتضن تجمعا طائفيا متنوعا

المشهد العام في الضاحية محزن ومرعب في الوقت نفسه، الشوارع خالية ليس فيها إشارة تدل على الحياة، بعضها مغلق بسبب الردم وحجارة الأبنية التي تساقطت على أرضه، وبعضها يتمشى فيه وحش الحرب فينشر الرعب في زواياه.

من مدخلها لجهة مخيم البرج حيث اغتيل الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، لا يمكن العبور، لأن أمن "الحزب" ضرب طوقا أمنيا حول المكان أولا. وثانيا لأن الحفرة العميقة وتفسخ المباني والانهيارات جراء الغارات العنيفة، تشكل خطرا مباشرا على العابرين.

على مسافة غير بعيدة من هذا المدخل، يمكن لمن يملك الشجاعة أن يدخل من جهة مبنى المجلس الشيعي، فتقوده الطريق يمينا باتجاه المبنى الذي قُتل فيه القيادي في "المجلس الجهادي" فؤاد شكر، أو شمالا باتجاه الغبيري ليصل إلى المكان الذي استُهدف فيه القيادي الآخر إبراهيم قبيسي، وإذا تجرأ أكثر وقرر التوغل في العمق، سيصل إلى الرويس وبير العبد والحي الأبيض والجاموس وحي الأميركان، حيث سيجد تلالا من الركام في وسطها حفر عميقة، وبيوتا صارت أثرا بعد عين، وأرزاقا تناثرت وتحولت إلى كتل من الفحم الأسود، وسط روائح كريهة وغيوم من الدخان الذي ما زال يتصاعد.

المشهد نفسه يتكرر من جهة حي معوض والشياح حيث اغتالت الصواريخ الإسرائيلية مسؤول الأمن الوقائي الشيخ نبيل قاووق، بإسقاط مبنى سكني فوق رؤوس قاطنيه، كذلك من جهة السان تيريز وبلدات الحدت والشويفات والعمروسية نزولا باتجاه حي السلم والجامعة اللبنانية، لا شيء سوى الدمار والخراب والمباني الفقيرة المتراصة التي تحولت إلى غبار من الباطون، والتي ما زالت تخرج منها سحب الدخان لتغطي سماء المنطقة، وتجوبها الكلاب والقطط الشاردة بحثا عن طعام أو نقطة ماء.

إنها المرة الثانية التي تشهد الضاحية تدميرا بهذا الحجم، المرة الأولى كانت صيف 2006، يومها كان التدمير عشوائيا، نسفت الطائرات الإسرائيلية على مدى 33 يوما مجمعات سكنية وأحياء ومؤسسات بأكملها، سواء كانت حزبية أو مدنية؛ جريا على عادتها، كما سوت بالأرض ما كان يعرف بالمربع الأمني، المكان الذي كان يسكنه قياديون ومحازبون ورجال دين تابعون لـ"حزب الله" وكان يحتضن مؤسساته وجمعياته المدنية والاجتماعية، وألحقت أضرارا جسيمة بالبنى التحتية.  

بادية فحص/المجلة
دخان القصف الإسرائيلي فوق الضاحية الجنوبية

هذه المرة، التدمير ممنهج وأكثر تركيزا، والصواريخ أكثر ذكاء وقدرة على الفتك والتدمير، المباني التي تقول إسرائيل إنها تستهدفها بالصواريخ، معروفة، وأي شخص يسكن في الضاحية بمقدوره أن يسمي لك أسماءها ويدلك على عناوينها، كما يمكنك أن تستقل سيارتك وتعاينها بنفسك، لكن ما تقوله شيء وما تفعله شيء آخر، إسرئيل محت في هذين الأسبوعين معالم كثيرة من الضاحية، بينما لم تسلم كلها من الأضرار الكبيرة والطفيفة، وارتكبت مجازر في أكثر من حي، بحجة ملاحقة عناصر "حزب الله"، إنها حرب إبادة تشنها إسرائيل على الضاحية شبيهة بحرب الإبادة التي تتعرض لها غزة منذ سنة، وإذا استمرت على هذه الوتيرة سوف نكون أمام غزة ثانية.

ما يحصل في الضاحية نكبة ثانية، يقول أحد السكان، ويشرح أن "النكبة الأولى كانت صيف 2006، هناك 18 عاما تفصل بين النكبتين، توسعت خلالها الضاحية وكبرت أضعافا، مما يعني أن حجم النكبة هذه المرة سيكون أكبر".

في النكبة الأولى لم تستخدم إسرائيل أسلوب الإنذار أو أوامر الإخلاء، قررت استهداف الضاحية كلها من دون استثناء، لذلك خلت منذ اللحظة الأولى للاعتداء من أهلها، وكان ذلك عاملا مهماً في تقليل الخسائر البشرية.

في الأيام الأولى للنكبة الحالية، وضع الطرفان ("حزب الله" وإسرائيل) قواعد محددة للاشتباك، على أساس أن لا تتجاوز مسافة 5 أو 7 كيلومترات على الحدود الجنوبية، لكن إسرائيل التي لا تلتزم بأية قاعدة، وسعت دائرة استهدافاتها تدريجيا، فطالت الضاحية بأكثر من غارة، بدأتها باغتيال القيادي في "حماس" صالح العاروري، بصاروخ ذكي لم يصب أي مدني في الجوار، وصارت تتوسع فيها، بحيث أصبح أي مكان على الأراضي اللبنانية يقيم فيه عنصر من "حزب الله"، وليس في الضاحية فقط، هو هدف مشروع لطائراتها. 

وبحلول شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ارتسم شكل جديد لنكبة الضاحية الثانية، تكثفت الاغتيالات إلى درجة أن كل مبانيها وشوارعها صارت بالنسبة إلى الطائرات الإسرائيلية عبارة عن مجموعة أهداف عسكرية فقط، فأسقطت أطنانا من المتفجرات على رؤوس سكانها، تارة بذريعة ملاحقة قياديين في "حزب الله"، وتارة بحجة تفجير مخازن للصواريخ موجودة تحت الأبنية، فقتلت مدنيين، أطفالا ونساء وشبابا ومحت عائلات بأكملها من السجل المدني، وخلفت خرابا واسعا غيّر معالم شوارعها وأحيائها.

هذه المرة، التدمير ممنهج وأكثر تركيزا، والصواريخ أكثر ذكاء وقدرة على الفتك والتدمير، والمباني التي تقول إسرائيل إنها تستهدفها بالصواريخ، معروفة

هذا اليوم بدت الضاحية، بعد سلسلة غارات عنيفة تجاوزت 15 غارة فجرا وأكثر من 7 بعد الظهر، من المكان المشرف الذي وقفت فيه، عبارة عن كتلة من اللهب وغيمة عملاقة من الدخان الأسود، يتخللهما بين الحين والآخر، أصوات غارات ودوي انفجارات مرعبة، وهدير طائرات الاستطلاع التي لا تهدأ ليل نهار.

في اليوم الأول للتصعيد، كنت قد دخلت إلى ساحة الغبيري في الضاحية، لإيصال سيدة نزحت معي من مدينة النبطية في جنوب لبنان، إلى منزل ابنتها هناك، وبدل أن أخرج من جهة جسر المطار كونه الطريق القريب، اخترت الطريق الطويل وتوغلت في شوارع الضاحية الداخلية. 

وددت أن أجري مقارنة سريعة بين مناطق الحرب ومشاهد النزوح، كان يوما عاديا من أيام الحرب، أثر النزوح لم يكن عميقا، الناس الذين قرروا مواجهة الحرب بالبقاء في بيوتهم، لم يكونوا قلة، كانت حركتهم في الشارع تشي بذلك، وتنعكس زحمة طفيفة لسيارات ودراجات نارية ومحلات تجارية مفتوحة الأبواب وعربات خضار متنقلة. 

الطائرات الإسرائيلية، سرعان ما حولت هذا اليوم العادي إلى يوم دموي لا يُنسى، فأغارت على مبنى سكني وسوته بالأرض وقتلت من قتلت فيه، ثم كررت هذا الأمر في الأيام التالية، عشرة أيام مرت على هذا التصعيد الدموي، والضاحية تقف في الساحة وحيدة مثل غزة، تكتب بدم أبنائها ودموعهم فصول نكبتها الثانية.

font change

مقالات ذات صلة