في الأصل، ليست الضاحية تجمعا سكانيا هامشيا على مدخل بيروت الجنوبي، وليس هذا اسمها في سجلات المدن والبلدات اللبنانية. هي مجموعة من البلدات والبساتين والسواقي لها أسماء وكيانات وسياقات اجتماعية خاصة، تنتمي جغرافياً إلى منطقة ساحل المتن الجنوبي وتتبع إداريا لقضاء بعبدا، لكنها أخذت تكتسب هذا الاسم أو هذه الصفة مع بداية تحولها منتصف السبعينات إلى ملجأ للهاربين من الحرب الأهلية وتقسيم بيروت إلى شرقية وغربية، ونزوح أهل الجنوب بفعل الحروب الإسرائيلية وأهل البقاع بحثا عن رزق أوفر.
قبل أن تصبح الضاحية "عاصمة الشيعة" في لبنان وثقلهم الديموغرافي وقاعدتهم الأيديولوجية والسياسية، كانت تحتضن تجمعا طائفيا متنوعا وعيشا مشتركا وتعددية سياسية، وقبل أن تتحول إلى غابة من الباطون العشوائي، كانت رئة خضراء تنعش أنفاس البيارتة والجوار، فيقصدونها طلبا للراحة والاستجمام.
في بداية عقد الثمانينات سيطرت حركة "أمل" على الضاحية، وفي نهايته سيطر "حزب الله" بعد معارك دامية بينهما أُطلق عليها اسم "حرب الإخوة"، بعدها بدأت الضاحية تميل إلى أن تصبح قطعة من إيران داخل لبنان، سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، ففقدت خلال هذه المدة شخصيتها وهويتها بالتدريج. باغتيال الرئيس رفيق الحريري وتشكيل الائتلاف السياسي الحديدي المعروف بـ"الثنائي الشيعي"، انفتحت أبواب الضاحية مجددا أمام جماعة "أمل"، لكنها بقيت تحت سطوة "الحزب".
أطلق الثنائي على الضاحية أسماء كثيرة بحسب الظرف السياسي، الحركة تسميها الضاحية الشموس، و"الحزب" يسميها ضاحية العزة والكرامة، وفي الظروف الاجتماعية حين يرغب الطرفان في اتهام الدولة بسياسة الإنماء غير المتوازن، يستخدمان عبارة الضاحية الضحية.
والضاحية هذه الأيام ضحية فعلا، ضحية حرب بين جبابرة يتصارعون في ما بينهم للسيطرة على المنطقة، حرب عرفنا بدايتها لكن نهايتها لا أحد يعلم إلى متى ستظل مفتوحة.
من يدخل إلى الضاحية بعد سلسلة الاستهدافات التي طالتها وهجرت سكانها ودمرت جزءا كبيرا من معالمها، يدرك حجم النكبة التي أصابتها، إن كان على صعيد الحرب التي تُركت فيها وحيدة مثل شقيقتها غزة، أو على صعيد الخسارات التي تكبدتها حتى الآن في الأرواح والممتلكات.
سوى أعداد القتلى والجرحى، لم تتكلف أي جهة رسمية حزبية أو حكومية، بإحصاء أعداد النازحين من الضاحية، ولا من بقي فيها حتى الآن، ولا حجم الخسارات المادية التي تسببت بها الغارات الإسرائيلية، ربما لأن "الحزب" الذي يحكم الضاحية، لم يعد يملك الإمكانات ولا القدرة على التحرك، وربما لأن الدولة كعادتها غائبة أو مغيبة عن الضاحية، وربما وهو السبب الأهم أن الحرب ما زالت في بدايتها وأن عداد الخسارات لم يتوقف بعد، بل هو إلى ارتفاع لحظة بلحظة.