بينما تغرق وحدات الدراسات والأبحاث ووسائل الإعلام في سيل من التحليلات العسكرية الاستشرافية لما قد يحدث ميدانيا بين إسرائيل وإيران في المستقل القريب، تبدو هذه الأخيرة منهمكة تماما في ضبط ساحتها الداخلية، متأهبة لما قد تفرزه من حركات اعتراض ومناهضة شعبية، بعد انكشاف الضعف الذي هي عليه، ومعها حلفاؤها الاستراتيجيون. فإيران، مثل كل نماذج الشمولية العسكرية والأيديولوجية التقليدية، لم تكن تستخدم الأذرع لضبط إيقاع التوازن العسكري والمنافسة الإقليمية والأمن القومي فحسب، بل خلق صورة متفوقة عن الذات أولا، واستخدام تلك الصورة لضبط وقهر الداخل ثانيا.
ثمة مؤشرات ودلائل لا يُمكن إحصاؤها لكثرتها، تراكمت طوال الشهور الماضية، توضح كل واحدة منها كيف أن النظام الحاكم في إيران مليء بالهواجس من داخله الشعبي، يفعل كل شيء لتجنب أية مواجهة داخلية، شبيهة بما حدث أكثر من مرة خلال الأعوام الماضية، لأنه متأكد من أن القواعد الشعبية ستكون أكثر جاهزية وجرأة في مواجهته راهنا، بعد انكشافه وبطلان ترسانة خطاباته وما رسمه من أوهام عسكرية وميدانية حول نفسه.
إذ يُظهر المندوبون والممثلون الإيرانيون في المحافل الدولية مثلا فيضا من التودد إلى مراكز القوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة، مُوجهين رسائل تؤكد عدم رغبة إيران في تصعيد المواجهة العسكرية والحرب في المنطقة، وقابليتها لمناقشة كل الملفات العالقة بينها وبين المجتمع الدولي، بما في ذلك الملف النووي. مثلها أيضا الخطابات ونوعية الكلام الذي يجادل به ويرسله الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، سواء للداخل الإيراني، عبر التأكيد على الأهمية القصوى لرفع العقوبات الأميركية والدولية لتحسين الأحوال الاقتصادية، أيا كانت الأثمان، أو تلك التي يوجهها للقوميات والطبقات العليا من المجتمع الإيراني، مشددا على الأخوة ووحدة الصف في الداخل. ومثلها مطالبة المرشد الأعلى بوضع ضوابط للإنترنت على مستوى البلاد، ومثلها أشياء أخرى كثيرة، توضح كيف أن النظام الحاكم يعي وينشغل بالحسابات الداخلية أولا.
على الدوام، كانت الدعاية الاستراتيجية للنظام الإيراني قائمة على اعتبار نفسه مركزا استراتيجيا لمقاومة القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، التي كان يسميها في أدبه السياسي "قوى الاستكبار"، مضيفا أن الطريق لذلك يمر عبر تشييد مجموعات وتشكيلات متنوعة من التنظيمات المسلحة والأحزاب والقوى الطائفية، في مختلف دول المنطقة، ليشكلوا معا جبهة مشتركة، بغية تحقيق الأهداف والمرامي الأيديولوجية التي حددها النظام الإيراني.
لأكثر من أربعة عقود ونصف، تمكن النظام الإيراني من "بيع" وترويج هذه الاستراتيجية للداخل، على اعتبار أنها "حقيقة الحقائق"، واستطاع حسبها قمع ولجم كل معارضة له، لكل الطبقات السياسية المناهضة لهذه الرؤية التي حولتها ميكانيكياً إلى عملاء ومأجورين لمحور "الاستكبار"، وأفقدت مجموع الإيرانيين كل حقوقهم الدستورية والسياسية العادية، وتبعا لحالة الطوارئ السياسية والحربية التي أحياها وجذرها النظام الإيراني في الداخل.
ربما لا تكون الإشارات والتحولات الأولى من الداخل الإيراني مباشرة، لكنها ستصله بالداخل مستقبلا دون شك
الأسابيع والشهور الماضية فككت كل ذلك، وحولته إلى رماد سياسي وعسكري وأمني، وأثبتت ضحالة وهشاشة ما أراد النظام تأكيده وتثبيته وتحويله إلى أسطورة مقدسة في الداخل. فلجم إيران لنفسها عن أي رد، وظهور فارق القوة والتنظيم والتخطيط بينها وبين القوى الأخرى، هشم ما بقيت تشيده لسنوات.
ما حدث شبيه بما فعلته هزيمة عام 1967 بالنظام الناصري والدعاية القومية الكبرى، فالذات والجبروت اللذان أنفقت الناصرية مالا ووقتا وجهدا كبيرا لتثبيتهما، أظهرا خواءهما المكين في ساعات قليلة، فتداعت الناصرية كلها بعد الهزيمة العسكرية، وإن على مراحل ودفعات. فالأنظمة التي تهندس جبروتها طوال سنوات، ما إن تنهار بعد وصولها إلى الذروة، لا تستطيع إعادة التشييد بأي شكل، بدلالة التجربة الناصرية والسوفياتية وغيرهما الكثير.
ربما لا تكون الإشارات والتحولات الأولى من الداخل الإيراني مباشرة، لكنها ستصله بالداخل مستقبلا دون شك، حسب ما يفرضه المنطق على نظام سياسي وصل ذروة ما كان يسعى لتشييده وانهار فجأة. فما تسببت به حركة "حماس" سيستدعي معادلة داخلية فلسطينية جديدة دون شك، أساسها عدم قبول الفلسطينيين باحتكار تنظيم سياسي موال ومرتبط بأجندة دولة أخرى لمصائرهم وشكل قضيتهم، وهُم الذين بذلوا طوال عقود بحرا من الدماء كي لا يكونوا رهينة أي نظام سياسي. الأمر نفسه ينطبق على الداخل اللبناني، فأية قوى سياسية لبنانية لن تستطيع الدفاع عن منطق "حزب الله"، الذي وضع لبنان رهينة لرؤية ومصالح النظام الإيراني، ولأجل ذلك حول البلاد إلى ترسانة من الأسلحة المفخخة وسط المُدن والأحياء الشعبية، وأوقف اللعبة السياسية، وهدر كل إمكانيات البلاد في سبيل ذلك الوهم.
لكن المخاوف الإيرانية الأكثر رعبا تأتي من الداخل العراقي، فالقاعدة الشعبية العراقية جاهزة لمناهضة حلفاء إيران الذين فككوا كل مضامين النظام الديمقراطي ونشروا حروبا وصراعات في كُل حدب، فما حدث في ثورة اكتوبر/تشرين الأول 2019، سيتكرر غالبا في الشهور القريبة، بضراوة وزحمٍ أكثر.
مقابل كل ذلك، لن يبقى الإيرانيون صامتين، وهم شعب تزخر ذاته وذاكرته بانتفاضات متلاحقة منذ بداية القرن، وحكام إيران يعرفون ذلك أكثر من غيرهم.