محافظ البنك المركزي المغربي لـ"المجلة: العالم سيعيش عدم اليقين الاقتصادي لسنتين

السيناريو الأخطر للحرب أن تتعطل الملاحة التجارية أو تحدث أزمة إمدادات للطاقة والأسعار

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
حاكم البنك المركزي المغربي عبد اللطيف الجواهري، 22 مارس 2023.

محافظ البنك المركزي المغربي لـ"المجلة: العالم سيعيش عدم اليقين الاقتصادي لسنتين

نجح نحو 80 في المئة من البنوك المركزية في العالم في كسب معركة التضخم وكبح جماح ارتفاع الأسعار، في حرب امتدت لنحو ثلاث سنوات، لتتمكن أخيرا من خفض معدل الفائدة بين 25 و50 نقطة أساس، في انتظار خفوضات إضافية متوقعة في السنتين الجارية والمقبلة، من البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيديرالي الأميركي. إلا أن المكاسب النقدية ونتائجها المالية وتطلعاتها الاقتصادية باتت غير مضمونة الأفق، في ظل التطورات الإقليمية الحالية وارتفاع لهيب الحروب إلى مستويات مخيفة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، لتزيد حالة عدم اليقين في قدرة الاقتصاد العالمي على تحقيق نمو يتجاوز 3 في المئة السنة المقبلة بحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE).

الرهان على البنوك المركزية

جاء في تقرير"Central Banker Report Cards" الصادر عن مجلة "غلوبال فايننس"، "أن البنوك المركزية عبر العالم خاضت حربا بلا هوادة ضد التضخم وارتفاع الأسعار طوال السنوات الأخيرة، باستخدم سلاح رفع معدلات الفائدة الأساس، وهو ما تكلل بالنجاح في جل الاقتصادات المتقدمة والناشئة مع بعض الفوارق، بعدما تراجع التضخم إلى أدنى مستوى له منذ أربع سنوات. لكن هذه النجاحات مهددة بالانتكاسة لأسباب غير اقتصادية".

واعترافا بهذه الجهود وتشجيعا على مواصلة البنوك المركزية لعب دور شرطي المرور في تدبير أزمات العالم الاقتصادية، صنفت مجلة "غلوبال فايننس" الأميركية، حكام البنوك المركزية 6 مستويات بحسب الكفاءة والنجاح والاستقلالية، ومنحت أعلاها، وهي درجة "A"، إلى عبد اللطيف الجواهري، حاكم البنك المركزي المغربي، ممثلا عن منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، وعميدا لرؤساء البنوك المركزية الإقليمية، التي كان دورها حاسما في الإنعاش الاقتصادي في فترة الإغلاق خلال جائحة "كوفيد-19"، بضخ مبالغ ضخمة في التمويلات والقروض. "بفضل شجاعة الاختيارات وتوقيتها تجاوز الاقتصاد العالمي أخطار أزمة الأسعار وأزمة الانكماش"، كما يقول جوزف جيارابوتو، ناشر "غلوبال فايننس".

توقعات بارتفاع النمو الاقتصادي في المغرب إلى 4,4 في المئة وصادرات السيارات إلى 20 مليار دولار

وسبق لمجلة "ذا بانكر" أن منحت الجواهري جائزة أفضل رئيس بنك مركزي في أفريقيا في 2024، "الذي ساعد في قيادة القطاع المصرفي والاقتصادي في بلاده على مدى عقود".

رفض إملاءات صندوق النقد الدولي

الرجل الذي دخل عقده التاسع سبق له قيادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي وزيراً للاقتصاد والمالية في أصعب مراحل تطبيق برامج الاصلاح الهيكلي (PAM) في ثمانينات القرن الماضي. يومها كان الاقتصاد المغربي مهددا بالسكتة القلبية كما وصفها الملك الراحل الحسن الثاني. وكان الجواهري يقول لمحاوريه في المؤسسات المنبثقة عن "بريتون وودز" في واشنطن "لا أقبل خفض نفقات التعليم والصحة لأنها مستقبل الأجيال. ويمكن خفض نفقات أخرى لأجل معالجة عجز الموازنة"، وكان تنفيذ تلك الشروط ضروريا في مقابل الإفراج عن حزمة قروض لإنقاذ المالية العامة.

.أ.ف.ب
المديرة العامة لصندوق النقد الدولي (الى اليسار)، وزيرة الاقتصاد والمالية المغربية نادية فتاح، ومحافظ البنك المركزي المغربي عبد اللطيف الجواهري(يمين)، خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي، في مراكش، 9 أكتوبر 2023.

بعد عقود من ذلك التاريخ، صرح مسؤولون في الصندوق لـ"المجلة": "لم نكن على صواب، كنا مخطئين بإملاء شروط مجحفة في قطاعات اجتماعية. إن نصائح خاطئة تم تطبيقها في بعض الدول النامية كانت سبباً في الإفلاس الاقتصادي والصعوبات الاجتماعية".

معضلة بطالة الشباب والنساء هي النقطة السوداء في مجموع الاقتصاد المغربي، ويجب معالجتها بإشراك كل الأطراف المعنية بدءا بالتعليم والمجتمع

عبد اللطيف الجواهري، حاكم البنك المركزي المغربي

في الآونة الأخيرة تراجعت "بريتون وودز" عن بعض شروطها التمويلية عندما أبدى الجواهري رأيا مخالفا، مثل موضوع تسريع تحرير سعر الصرف الذي يحتاج في رأيه إلى جيل كامل من الإصلاحات لتجنب الصدمات في زمن الأزمات، حتى لا تنهار العملة المحلية كما حدث في بعض الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية.

إقرأ أيضا: اجتماعات مراكش على إيقاع جورجيفيا... وحرب غزة

وفي حديث مع "المجلة" قال المحافظ الجواهري "إن المؤسسات المالية الدولية تخدم مصالح الدول الكبرى في الدرجة الأولى وليس الدول النامية، وهو نظام مالي قائم منذ الحرب العالمية الثانية". وأضاف "الدول المتقدمة تنهب ثروات الدول النامية وبها تحقق تقدمها. والشمال يمتص الجنوب، باستثناء ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية. والعالم يعيش عدم تكافؤ في التجارة الدولية والأسعار".

مفارقة ارتفاع البطالة مع ارتفاع النمو والصادرات

 يُوصف محافظ بنك المغرب بالشجاع الذي يُقارع المؤسسات المالية الدولية ويُبين أخطاءها ويرفض إملاءاتها، كما يبتعد عن أي تأثير سياسي أو حكومي أو مجموعات ضغط مالية أو جماعات مصالح ذاتية. وهو يرفع تقريرا سنويا شاملا إلى الملك محمد السادس لمناسبة عيد العرش، يتضمن كل التفاصيل والمعطيات والإحصاءات حول الوضعية المالية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وفي آخر ظهور إعلامي له، قال الجواهري إن "معضلة بطالة الشباب والنساء هي النقطة السوداء في مجموع الاقتصاد المغربي، ويجب معالجتها بإشراك كل الأطراف المعنية بدءا بالتعليم والمجتمع".

حاكم البنك المركزي المغربي، عبد اللطيف الجواهري مجتمعا مع ملكة هولندا ماكسيما، خلال زيارتها الرباط كممثلة خاصة للأمين العام للأمم الممتحدة في المجال المالي والتنموية، 22 مارس 2023.

وأثار ذلك جدالا إعلاميا حول المسؤولية الحكومية في ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، وهي سجلت 46 في المئة لدى فئة الشباب الباحثين عن عمل فرصة عمل للمرة الأولى، وأعمارهم ما بين 16و 25 سنة، على الرغم من تحسن مؤشرات الاقتصاد وتراجع معدلات التضخم. وأكد في معرض دفاعه عن رأيه، "إن الدول التي تراهن على تنمية الموارد البشرية عبر التعليم والتكوين والتأهيل سيكون لها فرص أفضل للتقدم والاستفادة من التكنولوجيا والعالم الرقمي".

المفارقة أن ارتفاع البطالة تزامن مع توقعات بارتفاع النمو الاقتصادي إلى 4,4 % في 2025، وصادرات السيارات إلى 20 مليار دولار، وإيرادات السياحة والتحويلات إلى 25 مليار دولار في 2024

المفارقة أن ارتفاع البطالة تزامن مع توقعات بارتفاع النمو الاقتصادي إلى 4,4 في المئة في سنة 2025، وصادرات السيارات إلى 20 مليار دولار في السنة الجارية، وإيرادات السياحة والتحويلات إلى 25 مليار دولار، والاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 3,2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024.

صوت القنابل أعلى من صوت الاقتصاد

 قابلت "المجلة" المحافظ في المبنى التاريخي للبنك المركزي وسط العاصمة الرباط، الذي يعود إنشاؤه إلى أكثر من مئة عام، وسألته عن الأوضاع المتسارعة في الشرق الأوسط وتأثيرها على اقتصادات المنطقة ومستقبلها.

Shutterstock
مبنى البنك المركزي المغربي التاريخي في الرباط، المغرب

عبّر الجواهري بداية عن الخيبة من فشل محاولات وقف الحرب في غزة على الرغم من كل النيات الطيبة التي عَبرَت عنها مرافعات الأمم المتحدة. في رأيه "العالم يفتقر إلى الحكماء لأن صوت القنابل أعلى من صوت العقل والحكمة". ربما لا أحد ينكر أن المنطقة تعيش منذ عقود على وقع حروب غير محسومة مثل البراكين تنفجر ثم تخمد مع تعاقب السنين، لكن الحرب تجاوزت الخطوط الحمراء وطال أمدها، "الكل خاسر والمدنيون هم أكبر الضحايا".

أميركا فاقدة للسيطرة على وقف الحرب، والسيناريو الأخطر أن تتعطل الملاحة التجارية أو تحدث أزمة إمدادات للطاقة والأسعار

عبد اللطيف الجواهري، حاكم البنك المركزي المغربي

من وجهة نظر حاكم البنك المركزي للمغرب، ستتواصل الحرب في الشرق الأوسط ومعها الخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية شهورا أخرى وربما تتحول حتى إلى حرب شاملة.

وقال الجواهري إن "هذه الحرب لها أجندات بعضها ظاهر وبعضها خفي، مثل لعبة الورق بين أطراف لا ثقة بعضهم في بعض. إيران لها أوراق تقايض بها الولايات المتحدة، وهي تحارب إسرائيل عبر أذرعها في المنطقة، في مقدمها "حزب الله"، الذي تعرض لضربات موجعة، لكنه قادر على تعبئة عشرات آلاف المقاتلين. وفي المقابل، يستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحرب لحسابات داخلية وشخصية، يضغط بها على الإدارة الأميركية لتحقيق مآرب أخرى". 

وأضاف "أميركا مشغولة في الانتخابات الرئاسية وفاقدة للسيطرة على وقف الحرب والأمم المتحدة عاجزة كذلك". واستبعد الجواهري دخول إيران بشكل مباشر في حرب مفتوحة مع إسرائيل لأن لها مصالح أكبر لا يمكن التفريط فيها والمغامرة بها اقتصاديا وتكنولوجيا، لكن الجماعات المؤيدة لها قد تتولى الرد بديلا منها. والسيناريو الأخطر أن تتعطل الملاحة التجارية أو تحدث أزمة إمدادات للطاقة والأسعار". متمنيا "ألا نصل إلى ذلك".

الاقتصاد الأوروبي في وضع صعب ومعدلات النمو تقل عن 1 % في مقابل 4 % في الاقتصاد الروسي. والاتحاد الأوروبي لا يملك المبادرة أو القدرة على فرض حل سلمي للنزاع

عبد اللطيف الجواهري، حاكم البنك المركزي المغربي

إقتصاد أوروبا رهينة حرب أوكرانيا

وردا على سؤال عن تأثير حرب أوكرانيا على أوروبا، وصف الجواهري أوروبا بالضعف لأسباب سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية مختلفة، فـ"الاقتصاد الأوروبي في وضعية صعبة ومعدلات النمو تقل عن 1 في المئة في مقابل 4 في المئة في الاقتصاد الروسي. والاتحاد الأوروبي لا يملك المبادرة أو القدرة على فرض حل سلمي للنزاع".

Shutterstock

"كل أوراق إنهاء النزاع في شرق أوروبا توجد في البيت الأبيض، ويجب انتظار من يفوز بالرئاسة لمعرفة التفاصيل، وربما ننتظر إلى الربع الأول من العام المقبل". وحذر من مغامرة استخدام أسلحة غير تقليدية أو بعيدة المدى داخل التراب الروسي لأن الأمر سيُعدُّ خطيرا ومُستفزا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين". واعتبر أن التأثير الاقتصادي لهذه الحرب قد يصل إلى دول نامية في أفريقيا، والشرق الأوسط في حاجة إلى توريد مواد غذائية من روسيا وأوكرانيا مثل القمح. وكانت هناك صعوبات في التصدير قبل عامين من موانئ جنوب أوكرانيا في الشهور الأولى للحرب".

عدم اليقين الاقتصادي لسنتين إضافيتين

توقع الجواهري أن تتواصل حالة عدم اليقين عامين إضافيين حتى 2026 بسبب عمق المشاكل التي يعيشها العالم، والتي تزيد ضبابية كيفية تدبير الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية (النازحون والمهجرون)، وقد يحدث صراع لا يمكن التحكم فيه إذا تفاقمت الأوضاع في أي من النزاعين.

صحيح أن الأسعار انخفضت، وكذلك التضخم، لكن الاقتصاد أصبح أكثر تشرذما، وفشلت برامج التنمية في كثير من الدول الفقيرة، ولم يتغلب العالم على بطالة الشباب، وأزمة المديونية في تفاقم

حاكم البنك المركزي المغربي، عبد اللطيف الجواهري

كل هذه الصعوبات والمخاوف لا تفيد الاقتصاد العالمي، "صحيح أن الأسعار انخفضت، وكذلك التضخم، لكن الاقتصاد أصبح أكثر تشرذما، وفشلت برامج التنمية في كثير من الدول الفقيرة، ولم يتغلب العالم على بطالة الشباب، وأزمة المديونية في تفاقم، والتغيرات المناخية تزداد ضراوة، ومشاكل الهجرة تتعمق، والاستثمارات الأجنبية في تراجع بما فيها داخل الولايات المتحدة وأوروبا والدول النامية".

وبحسب خبرته، لا تملك البنوك المركزية هامش مناورة كبيرا في تعاملها مع الأزمات المتلاحقة: "في النهاية لا يمكن للبنوك المركزية وحدها معالجة كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والاستثمارية".

تحسن المؤشرات في انتظار الأمطار

وكان المركزي أبقى معدل الفائدة الرئيس عند 2,75 في المئة في الربع الثالث من السنة، في انتظار تقديم مشروع موازنة 2025 أمام البرلمان نهاية الشهر الجاري. وتبدو المؤشرات الماكرو-إقتصادية في تحسن على الرغم من أن تأثير سنوات من الجفاف أضرت القطاع الزراعي الذي فقد عشرات آلاف فرص العمل. ويتوقع أن يتراجع عجز الموازنة إلى 3,9 في المئة وأن يحقق الاقتصاد نموا بـ4,4 في المئة، وأن تنخفض المديونية إلى 68,5 في المئة من الناتج المحلي، وأن يتجاوز الاحتياطي النقدي 40 مليار دولار في عام 2025. والثابت أن مناقشة الموازنة المقبلة، التي ستمتد على ثلاثة شهور، ستشهد أطوارها استحضارا لأزمات العالم وحروبه المدمرة، ومآسي الشعوب، خصوصا في لبنان وفلسطين.

font change

مقالات ذات صلة