لا تزال حياة ابن رشد (1126- 1198) وأفكاره تثير اهتمام الباحثين والأدباء والفنانين، من خلال العديد من الدراسات وبعض الأعمال الروائية والفنية. إلا أن هذا الاهتمام لا يزال غير كاف لما لهذه الشخصية من مكانة مهمة في التاريخ الإسلامي والإنساني.
هذه الأهمية تدعو الكثيرين من المهتمين بالكتابة عن الشخصيات التاريخية إلى تناول ابن رشد في أعمال متعددة ومن زوايا مختلفة، فإذا كانت محنته الشهيرة مع الخليفة المنصور الذي أمر بإحراق كتبه تطغى على معظم جوانب حياته، فإن هناك ما يستحق الالتفات إليه في حياة الفيلسوف الأندلسي. فتجربته مع الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور الذي بدا مهتما بالفلسفة ثم عاد وحذر المسلمين من الاشتغال بها، تجربة تستحق التناول، كما أن عمله في ترجمة فلسفة أرسطو وشرحها يمكن أن تكون موضوعا لرواية. إلى جانب ذلك يمكن استلهام العديد من الروايات حول موضوعات مختلفة من حياته، مثل علاقته بالسلطة وبتوليه منصب قاضي القضاة، وعلاقته بالطب والفلك والهندسة، ونفيه إلى أليسانة ومكوثه في مجتمع يهودي، ثم ذهابه إلى مراكش وعودته إلى قرطبة. كما أن علاقته بالفلاسفة ومنتقديهم يمكن أن تكون أيضا موضوعا لرواية. أما عن ترجمة كتبه وكيفية تلقيها في أوروبا بعد عقود طويلة من وفاته فهذا موضوع آخر فيه الكثير من الإثارة التي تكشف عن مدى إسهام ابن رشد في تجديد الفكر الإنساني بعد رفض ومحاربة المراجع التقليدية في أوروبا لفكره، ومن أشهرها موقف الفيلسوف الكاثوليكي توما الأكويني (1225- 1274).
تتقاطع في الرواية سيرتان، سيرة ابن رشد وسيرة سعد الدين إسكندر، الأول من الماضي والثاني من الزمن الحاضر
تناول بعض الكتّاب سيرة ابن رشد بالاعتماد على ما ورد عنه في كتب التراث العربي إضافة إلى العديد من الأبحاث والدراسات، إلا أن التناول الأدبي والفني ما زال محدودا، فقد تناول المخرج يوسف شاهين جوانب من حياة ابن رشد في فيلمه "المصير" (1997)، كما كتب الكاتب الفرنسي جيلبير سينويه رواية بعنوان "ابن رشد أو كاتب الشيطان" (صدرت ترجمتها إلى العربية عن دار الجمل عام 2020). وفي هذا السياق، أصدر الكاتب المصري إبراهيم فرغلي روايته الجديدة "بيت من زخرف" عن "دار الشروق" في القاهرة، وفيها تتقاطع سيرتان، سيرة ابن رشد وسيرة سعد الدين إسكندر، الأول من الماضي والثاني من الزمن الحاضر ويبدو أن الكاتب اتخذه رمزا لمحنة الكثيرين من المفكرين الحديثين والمعاصرين الذين واجهوا حملات التكفير والتحريض من المتعصبين الدينيين، ومنهم نصر حامد أبو زيد الذي أهديت إليه الرواية.
يتخذ فرغلي من أسلوب البحث عن مخطوطات طريقة في كتابة نصّه، إلا أنه يخرج عن سياق هذا التأطير إلى تقنيات سردية أخرى عبر أصوات مختلفة. وإذ يحضر التخيل في مشاهد وأوصاف النص السردي فإننا نجد الكاتب يعتمد في جوانب من سرده عن حياة ابن رشد على مراجع تاريخية مدونة، أحيانا تبدو معالجة بشكل فني وأحيانا تبدو لنا كأنها نُقلت كما هي، ربما لافتتان الكاتب بجمالية المشهد المروي، كما في هذه الفقرة التي يتحدث فيها ابن عربي في "الفتوحات المكية" عن لقائه الأول بابن رشد:
"دخلتُ يوما بقرطبةَ، على قاضيها أبي الوليد ابن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي، وكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنَّه كان من أصدقائه، وأنا صبيٌّ ما بَقَلَ وجهي ولا طرَّ شاربي. فلما دخلت عليه، قام من مكانه إليّ محبَّة وإعظاما، فعانقني وقال لي: نعم. قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا. فانقبض وتغيّر لونه وشك فيما عنده. وقال: كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ؛ فاصفرّ لونُه وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه".
تمضي رواية فرغلي (431 صفحة) عبر مستويات عدة من السرد، تجتمع فيها أصوات عديدة، لكنها تدور جميعها حول محنة ابن رشد التي تمتد إلى الزمن الحاضر ممثلة في شخصية سعد الدين إسكندر. حتى تلك القصة المتخيلة عن عشيقة ابن رشد، لبنى القرطبية، وكان يمكن أن تكون عاشقة ابن رشد وليست عشيقته لإمكان تحقق المتخيل أكثر، فإننا نجدها تسرد وجعها وهي ترى كتب ابن رشد تحترق أمامها وأمام تلاميذه الذين يحاولون الحفاظ على نسخ منها. وقبل ذلك سمعت عبارات السخرية والشتائم والقصائد التي تقال ضد "قاضي القضاة"، بل إن الجرأة وصلت بهم إلى منعه هو وابنه أبو محمد من دخول المسجد الكبير لأداء الصلاة.
وفي خبر عن هذه العشيقة نجد هذا المفتتح: "عاشت لأكثر من عقدين في مرارة اليُتم. كرهتْ حروب المسلمين وغير المسلمين كافة، بما فيها حروب الفاتحين والطوائف، وحتى حروب المرابطين التي استعادت للأندلس بعض قوتها التي أوهنتها الحروب والفتن، حين تفتت الأندلس إلى ممالك وطوائف. ولعلها ما كانت لتولي الحروب اهتماما لولا أن أباها كان بين من استشهدوا في معركة من تلك المعارك. تضاعف كربها حزنا على أبيها في صباها، لا سيما بعد أن أخبرتها أمها بأنه لم يكن مقاتلا في الجيش النظامي بل تطوع نظير أجر".
رواية عن الراهن العربي الذي يفترض قراءته نقديا من خلال هذه الرواية التي تتناول شخصية عظيمة في الثقافة العربية والإنسانية
في أكثر من موضع في الرواية، نجد "طبول الحرب" تدوي في الأندلس خلال المواجهات مع القشتاليين، حيث ارتفع الشعار الشهير "لا غالب إلا الله" مع السلطان المنصور الذي رفض مغادرة ميدان الحرب "إلا منتصرا أو شهيدا"، وكان يدرك "أن القوة وحدها لم تعد كافية ولا بد للحيلة والتخطيط أن يؤتيا ثمارهما".
رواية إبراهيم فرغلي عن ابن رشد هي رواية عن محنة المفكّر العربي التي دامت طويلا، محنته في مواجهته للتيارات المتطرفة الدينية المعيقة لحرّية الفكر والحوار، ومحنته مع السلطة التي تدعم هذه التيارات وتشجعها للنيل من المفكرين والوقوف ضد نشاطهم ومنع كتبهم ومصادرتها. لذا هي رواية عن الراهن العربي الذي يفترض قراءته نقديا من خلال هذه الرواية التي تتناول شخصية عظيمة في الثقافة العربية والإنسانية من المهم إعادة الاعتبار اليها.