الفنان التشكيلي علاء بشير... إنساني بضراوة

الطبيب الذي أصبح رائد السريالية في العراق

AP Photo/Simon Dawson
AP Photo/Simon Dawson
الفنان وجراح التجميل السابق الدكتور علاء بشير في منزله في نوتنغهام بإنكلترا، الخميس 2 أكتوبر 2008.

الفنان التشكيلي علاء بشير... إنساني بضراوة

عُرف الفنان العراقي علاء بشير (1939) بالطبيب الرسام. لا لأنه درس الطب في الوقت نفسه الذي درس فيه الرسم فحسب بل وأيضا لأن حضوره في المجالين كان قويا للغاية، إلى درجة أن سؤالا من نوع "هل تفضله طبيبا ام تفضله رساما؟" لا ينطوي على قدر من الحيرة وسوء الفهم بقدر ما يعبر عن سذاجة في فهم المعنى الذي أراده بشير لحياته. وهو معنى سخي في عطائه، ممعن في شفافيته وعميق في اتصاله بالمبادئ الإنسانية.

رسوم بشير تكشف عن معرفة تفصيلية بالجسد البشري وهي معرفة لا تتصل إلا في جزء صغير منها بدرس التشريح الذي تلقاه حين دراسته للرسم، أما الجزء الأكبر فمستلهم من عشرات الالاف من العمليات الجراحية التي أجراها للجنود والمدنيين المصابين في الحرب. وإذا كان الجراح اشتهر بإعادة أعضاء مبتورة إلى أماكنها من خلال عمليات معقدة، فإن ذلك كان مصدرا لمعرفة مجاورة آخت بين الألم والأمل. تلك معرفة وجودية جعلته خبيرا بأسئلة تتحدى التفكير في الموت مندفعة في اتجاه شواطئ لا تُرى من فكرة العيش القلقة. ذلك ما أهّله لكي يكون الرسام السوريالي الوحيد في تاريخ الرسم الحديث في العراق. لقد رأى في عيون مرضاه وسمع في أنينهم وشمّ في روائحهم ما لم نره ونسمعه ونشمه من صور وأصوات وروائح في الحياة اليومية. جعلته تلك التجربة التي امتدت عبر أكثر من عقدين من الزمن، يقف في مكان بين الموت والحياة. ذلك كابوسه الذي ظل يرافقه في كل أرض وطئتها قدماه.

الرسم يقاوم الموت

قبل "المساومة القاسية" وهو عنوان معرضه الحالي الذي يقيمه في قاعة "المنتدى الهندي" بلندن، أقام علاء بشير قبل سنة في المكان نفسه معرضا نحتيا بعنوان "أفكار من تراب" كان بمثابة إعادة عرض لمعرض أقامه في بغداد في ثمانينات القرن العشرين كتب جبرا إبراهيم جبرا مقدمة دليله التي قال فيها "إن علاء بشير اجترح معجزة في تاريخ النحت الحديث بالعراق". في ذلك المعرض حول الفنان كوابيسه إلى مشاهد جسّدها بالطين لكي يثبت أن سورياليته كانت مستمدة من الواقع.

الجزء الأكبر من عمله مستلهم من عشرات الالاف من العمليات الجراحية التي أجراها للجنود والمدنيين المصابين في الحرب

إلى هذا الحد كان الواقع غرائبيا؟ في حقيقة عمله لم يكن الطبيب مهتما بغرائبية الصور التي يراها وهي صور فاجعة، بقدر ما كان يسعى إلى استنباط الأفكار التي تحيط بتلك الصور. هل يفكر أولئك الذاهبون إلى الموت بالطريقة نفسها التي يفكر من خلالها العائدون منه؟ لم يخلُ الصمت من صخب مكتوم. في تلك المسافة يضع الطبيب رسومه. وهي محاولة للعلاج الذاتي. من خلال الرسم والنحت قاوم علاء بشير فكرة الاستسلام للموت. لذلك لا تصف منحوتاته ورسومه مشهدا بعينه حين تغزونا بأفكارها التي تبدو مستخرجة من عالم ما ورائي.

غير أن تجربة الطبيب الواقعية تخبرنا أن الرسام كان مخلصا للواقع على الرغم من أنه تحاشى الوصف ولم يشأ التخلي عن حقيقة أن الموت فكرة تتجاوز الواقع وتحبطه. مسكونا بمقاومة موت الآخرين، رسم ونحت علاء بشير وهو يرتجل جمالا، سيكون دائما مختوما باسمه. ما يؤمن بشير به من نظريات الطب التكميلي ينقض ما صار مشاعا من ممارسات تجارية في مجال عمليات التجميل.

أفكار وجودية برؤى تصويرية

المعرض الحالي يضم خمسة أعمال كبيرة الحجم (4 أمتار عرضا و3 أمتار ارتفاعا) وهي جزء من سلسلة أعمال سبق له أن نفذها في الدوحة حيث يعمل جراحا هناك بين وآخر. المَشاهد في جزء كبير من مفرداتها تذكّر بالعالم الرمزي الذي سبق للفنان أن ركبه كأنه يستله من كوابيس، هي بالنسبة إليه لم تكن رهينة بالنوم بقدر ما هي محاولة لتوظيف أفكاره عن ثنائية الموت والحياة في محاولة تأثيث العدم بمفردات هي ليست منه. في كل لوحة من لوحات المعرض، هناك مجموعة من الأفكار الوجودية التي تصدم المتلقي لأنها أخيرا اكتسبت طابعها التصويري. ولكن ذلك لا يمثل مشكلة لعلاء بشير الذي أراد في معرضه الحالي أن يسمّي العلاقة بين الموت والحياة باسمها الحقيقي: "المساومة". شيء من الموت وشيء من الحياة. مرويات الطبيب أثناء الحرب كثيرة، غير أن واحدة منها يمكن أن تقع في المسافة التي تفصل بين الموت والحياة. يقول: "كان لدينا في مستشفى الواسطي خمس قاعات للعمليات وهو ما كان يفرض علينا أن نختار خمسة جرحى في كل مرة من بين عشرات الجرحى. الأقرب إلى النجاة كان يملك حظا أكثر من ذلك الذي يموت حتى لو أُجريت له عملية"، لكن الرسّام ينفي أنه كان تعرف الى العالم الذي يرسمه من طريق تجربته طبيبا. ذلك لأن عالمه في الرسم يتسع لمفردات مستعارة من الطبيعة أيضا.

لن يكون الموت مخيفا

من بين الرسامين العراقيين المجددين الذين ظهروا في ستينات القرن العشرين، ينفرد علاء بشير بميله إلى إنسانية العمل الفني وعدم إنزلاقه إلى ترف ورفاهية الشكل على حساب المعنى. ذلك لا يعني أن المعادلة الفنية لديه قدمت الفكرة على الشكل. يعنى بشير بأصول الحرفة وعناصر التقنية كأي فنان تقليدي لا يجد مانعا من أن تقتحم طريقة الرؤية الحديثة عالمه، غير أنه في الوقت نفسه يصر على أن تكون اللوحة بابا ينفتح أمام المشاهد ليلقي به في حقول الأسئلة الوجودية وبالأخص ما يتعلق منها بالجانب المظلم الذي يقع في مناطق هي ليست في متناول النظر المباشر. شيء ما هو أشبه بالأشعة السينية، لكن بطريقة تتخطى الجسد إلى الشعور الذي يجمع بين ما هو ملموس وما هو مفكر فيه كما لو أنه نوع من الحلم.

يرسم بشير مشاهد مستعارة من واقع متخيل. ولديه سلسلة لا تنقطع من الحكايات التي يؤكد من خلالها أنه كان مضطرا إلى اختزال ما رآه واقعيا فوصل إلى الفكرة التي تعزز حقيقة ما عاشه مع بشر حقيقيين، كانوا قد وصلوا من غير أن يقرروا إلى لحظة الصدق الصافي. في واحد من أعمال المعرض، رسم بشير احتفالا جنائزيا تهيء فيه الأشباح الموتى للذهاب إلى العالم الآخر، لكنّ مزاج الرسام الدنيوي فرض عليه مشهدا جنانئيا. زهور بكل الألوان وأشجار وأعشاب خضراء من كل الأنواع. لم يكن مشهد الوداع  سوداويا. لم يكن الموت هذه المرة مخيفا.

يفكر علاء بشير في قسوة أن يكون الإنسان غريبا عن الفن وأن يكون الفن في المقابل غريبا عن الإنسان

مرويات عن عالم الخليقة

الرسام الذي أقام معارض كثيرة داخل العراق وخارجه وبالأخص في الولايات المتحدة وبريطانيا حيث يقيم، استهلم في رسومه هذه المرة الثنائيات الوجودية التي يعتقد أن وجودنا قائم عليها. الحب والكراهية. الليل والنهار. المرأة والرجل. الحياة والموت. ومن خلالها جميعا الإنسان والفن. ليس كسواه من الفنانين، يفكر علاء بشير في قسوة أن يكون الإنسان غريبا عن الفن وأن يكون الفن في المقابل غريبا عن الإنسان. علاء بشير كما يقول نيتشه، "إنساني بضراوة". تلك صفة ستعزز طريقته المتفردة في التفكير في الفن. رسام من نوعه يفكر في مستقبل النوع البشري، غير أنه يفكر في الوقت نفسه بالرسم باعتباره محاولة لتبرئة الكائن البشري مما يجري من حوله.

أهمية علاء بشير تكمن في ما يرسمه، غير أنها أيضا تكمن في ما تنطوي عليه رسومه من أفكار تظل غامضة وقد لا تفك لغزيتها مروياته عن عالم الخليقة الذي احتفى به في رسومه.

font change

مقالات ذات صلة