متى بدأت الحرب الأهلية التي أدمت الجزائر منذ أكثر من عقدين، وتُعرَف باسم "العشرية السوداء"؟ متى انتهت؟ وكيف؟ مَن كان وراءها؟ مَن تصارع فيها؟ وعلى ماذا؟ كم عدد ضحاياها؟ للإجابة عن هذه الأسئلة المعلّقة التي بات ممنوعا طرحها في وطنه منذ ما يُعرف بـ"المصالحة الوطنية"، وضع الكاتب الجزائري الفرنكوفوني كمال داود روايته الجديدة، "حوريات"، التي صدرت حديثا في باريس عن دار "غاليمار".
رواية هي عبارة عن مونولوغ صادِم وطويل يضعه صاحب "مورسو، تحقيق مضاد" على لسان شابة جزائرية تتوجّه فيه إلى الجنين (أنثى) في بطنها بغية سرد قصّتها لها وتبرير قرارها وضع حد لنموه داخل أحشائها.
اسم هذه الشابة فجر. ولا مصادفة في اختيار الكاتب هذا الاسم لها، كونها تحمله "مثل لافتة منيرة في أكثر الليالي حلكة". فقبل أن تبلغ سنّ السادسة، تعرّضت للذبح خلال تلك المجزرة الرهيبة التي وقعت في شمال غرب الجزائر، في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1999، وراح ضحيتها 1001 شخص. ذبحٌ من الوريد إلى الوريد، ومع ذلك، أفلتت من الموت، بخلاف جميع أفراد عائلتها. ولذلك، لديها تاريخ ميلاد آخر هو الأول من يناير/ كانون الثاني 2000 الذي اُنقِذت فيه حياتها، أو بالأحرى "نصف حياتي"، لأن لا أحد يخرج سالما من تجربة بهذه الفظاعة.
الليل والهلال
وفعلا، بسبب ذبحها، فقدت فجر أوتار صوتها، وبالتالي القدرة على النطق، وصارت تتنفّس من ثقبٍ في عنقها. لكن هذا لا يعني أنها باتت عاجزة عن الكلام، فهي تمارس لغتين بطلاقة مدهشة: "واحدة مثل الليل، والأخرى مثل هلال". وبلغتها الأولى، الداخلية، الحميمة، الغنية بكل تلك الكلمات التي لا تخرج من فمها، تتحدّث إلى الطفلة –الجنين التي في بطنها لإقناعها بأن لا معنى لمجيئها إلى هذا العالم، وبضرورة عودتها إلى كنف نساء الجنة، الحوريات، حيث مكانها: "أجنّبك الولادة لتجنيبك الموت في كل لحظة. ففي هذا البلد، يحبوننا بكماوات وعاريات لمتعة الرجال في لحظة الشبق". تحدّثها أيضا، ومن دون شك، لتأخير الساعة التي ستضع فيها قرارها موضع التنفيذ.