السودان، البلد الذي يمتلك ثالث أكبر احتياطي من الذهب في أفريقيا، يعاني من أزمة اقتصادية خانقة وحرب أهلية مدمرة. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ الإجابة تكمن في قصة الذهب السوداني، وكيف تحولت هذه الثروة إلى مصدر للصراع والفساد، بدلا من أن تكون محركا للتنمية والازدهار.
شهد الاقتصاد السوداني تحولا ملحوظا عقب استقلال دولة جنوب السودان عام 2011، حيث تراجع إنتاج وتصدير النفط بنسبة كبيرة بلغت 75 في المئة بعد فقدان البلاد لثلثي احتياطاتها النفطية وآبار النفط النشطة. أدى هذا الانخفاض الحاد في إيرادات النفط، التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد السوداني لسنوات طويلة، إلى توجيه أنظار نظام عمر البشير الحاكم حينها نحو موارد أخرى.
في هذا السياق، برز الذهب كمنجم جديد للثروة، شهد قطاع التعدين الذهبي نموا متسارعا على الصعيدين المنظم والتقليدي. وسرعان ما تحولت تجارة الذهب إلى شريان حياة للاقتصاد السوداني، وأصبحت مصدرا رئيسا، بل وربما المصدر الأساسي، للعملات الأجنبية التي تحتاجها البلاد بشدة.
هذا التحول الاقتصادي المفاجئ لم يكن من دون تداعيات سابقة ولاحقة. فمنذ اكتشاف وبدء تصدير النفط السوداني في أغسطس 1999، عانى الاقتصاد السوداني من ظاهرة اقتصادية تعرف بـ"المرض الهولندي" والتي تحدث عادة عند اكتشاف موارد طبيعية جديدة، وتتمثل في تركيز الاهتمام على هذه الموارد ذات العائد الاقتصادي الكبير والسريع على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى.
وفي حالة السودان، أدى الاعتماد المتزايد على النفط إلى إهمال القطاعات الاقتصادية التقليدية مثل الزراعة والثروة الحيوانية، التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد السوداني لفترات طويلة وتساهم بحوالي 60 في المئة من الناتج القومي الإجمالي للسودان منذ الاستقلال، ولكن سرعان ما انخفضت هذه النسبة بسبب إهمال قطاع الزراعة والثروة الحيوانية مقابل تزايد الاهتمام بالمدخول العالي لتصدير النفط ومشتقاته التي ارتفعت لتشكل 80 في المئة من صادرات السودان منذ عام 2002.
وسمح ارتفاع عائدات النفط، إلى جانب الاستقرار النسبي الناتج عن اتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في 2005، بازدهار الاقتصاد السوداني ووصوله إلى معدل نمو إجمالي بلغ 9 في المئة عام 2007. وبحسب إحصائيات وتقارير صندوق الأمم المتحدة الإنمائي، أصبح الاقتصاد السوداني يحتل المرتبة السابعة عشرة عالميا من حيث معدلات النمو عام 2010. ولكن هذا النمو الاقتصادي الظاهري كان يخفي خللا هيكليا أساسيا، انكشف حاله باستقلال جنوب السودان وفقدان عائدات تصدير النفط.
لم تكن حمى الذهب التي اجتاحت السودان منذ انفصال الجنوب مجرد ظاهرة اقتصادية ذات آثار سياسية عابرة، بل تسببت كذلك في كارثة بيئية شاملة. فقد أدى التوسع العشوائي في عمليات التعدين التقليدي، التي اعتمدت على طرق بدائية وخطيرة، إلى تدمير واسع النطاق للموارد الطبيعية. كان استخدام الزئبق السام في عمليات فصل الذهب أبرز هذه الممارسات الضارة. إذ يعتبر الزئبق أرخص المواد التي يستعملها عمال المناجم التقليديون في عملية تنقية الذهب وفصله عن المعادن الأخرى، ولكنها تتسبب في تسميم التربة ومصادر المياه بشكل كبير للغاية. حيث تسبب أبخرته السامة في تلويث شامل للهواء والماء والتربة، ويؤدي تراكمه في الأجساد الحية، إلى أمراض مزمنة تشمل أمراض الكلى والجهاز العصبي، وتشوهات الأجنة، وحتى الوفاة. وعلاوة على ذلك، فإن الزئبق مادة غير قابلة للتحلل البيولوجي، مما يعني أنها تبقى في البيئة لفترات طويلة ويمكن انتقالها عبر السلسلة الغذائية، ليتضاعف تهديدها البيولوجي بشكل كارثي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتدت الآثار السلبية لتشمل تدهور الأراضي الزراعية، وتدمير الغطاء النباتي، وتغيير المسارات المائية، مما أثر سلبا على الزراعة والتنوع البيولوجي في المناطق المتضررة. وفاقمت هذه الأنشطة من مشكلة التلوث البيئي، خاصة في المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها.