في الوقت الذي تتوجه فيه أنظار العالم إلى الهجمات الإسرائيلية المتصاعدة على "حزب الله" في لبنان، ثمة صراع إقليمي محتمل آخر يتحضر بهدوء في الأرجاء. انطلقت شرارة هذا التوتر المختمر في 20 سبتمبر/أيلول، عندما أدت غارة جوية، يُعتقد أن إسرائيل نفذتها، إلى مقتل قائد فصيل "كتائب حزب الله" العراقي في سوريا. وعلى عكس عمليات القتل الأكثر تكرارا التي تستهدف قادة "حزب الله" والقادة الإيرانيين، فإن اغتيال إسرائيل المتعمد لقائد عراقي يشكل خطوة نادرة، إن لم تكن غير مسبوقة.
وفي المقابل، أدى هذا الحدث إلى تصعيد حاد في الضربات الانتقامية التي تشنها "المقاومة الإسلامية في العراق" ضد إسرائيل. إذ لم تكتف "المقاومة" بزيادة كثافة هجماتها، بل نجحت أيضا في بلوغ الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل بمعدل أعلى وضرب أهداف هناك. أدت هذه التطورات، ولاسيما التهديد المتزايد الذي تشكله "المقاومة الإسلامية في العراق" على إسرائيل، إلى وضع كلا الجانبين على مسار تصعيدي، ما قد يفضي إلى زيادة العنف في العراق وسوريا، حيث تنشط "المقاومة".
وقبل الخوض في عواقب هذا التصعيد، من الأهمية بمكان أن نفهم لماذا استهدفت إسرائيل قائد "كتائب حزب الله" بضربة نفذتها طائرة دون طيار استهدفت سيارته بالقرب من مطار دمشق في ساعات الصباح الأولى من 20 سبتمبر/أيلول. حيث كانت "المقاومة الإسلامية في العراق" قد أعلنت مسؤوليتها عن حوالي 167 هجوما على أهداف إسرائيلية بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 والخامس والعشرين من سبتمبر 2024، ما يجعل تحديد السبب الدقيق لذلك الاستهداف صعبا بعض الشيء. ومع ذلك، من الممكن أن يقدم اثنين من المستجدات الحديثة بعض الرؤى اللافتة.
يبدو أن مقتل قائد "كتائب حزب الله" لعب دورا عكسيا، بدلا من أن يشكل رادعا، ما يوحي باحتمال الذهاب إلى مزيد من التصعيد
الأول اتجاه لوحظ في سبتمبر 2024، حيث شهدت "المقاومة الإسلامية في العراق" زيادة ملحوظة في معدل نجاح هجماتها التي تستهدف الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. وحتى أغسطس/آب 2024، لم تعترض قوات الدفاع الإسرائيلية سوى 18 في المئة من الهجمات التي ادعت الجماعة مسؤوليتها عنها، في حين أن الكثير من الادعاءات المتبقية تفتقر إلى وجود الأدلة الملموسة، ما قاد إلى تكهنات بأنها مجرد ادعاءات مبالغ فيها من أجل التأثير الإعلامي.
وقد يشير التحسن المفاجئ في معدلات نجاح "المقاومة الإسلامية في العراق" إلى أن اغتيال إسرائيل للقائد العراقي كان يهدف إلى التحذير من المزيد من الهجمات. وتُردد هذه الخطوة صدى هجوم إسرائيل على الحديدة في اليمن في أغسطس الماضي، الذي أعقب ضربة نفذها "الحوثيون" على تل أبيب، على الرغم من الاختلاف الكبير قي حجم الواقعتين.
أما الثاني فهو الارتفاع الأخير في الهجمات الإسرائيلية ضد "حزب الله". ففي الوقت الذي يواجه فيه "حزب الله" ضغوطا متزايدة في لبنان، ومع وجود خطر نشوب صراع شامل يلوح في الأفق، ربما نفذت إسرائيل عملية اغتيال القائد العراقي لردع الفصائل العراقية عن التدخل لدعم حليفها اللبناني. وقد أعرب القادة العراقيون المتحالفون مع "المقاومة الإسلامية في العراق" مرة تلو الأخرى عن استعدادهم للقتال إلى جانب "حزب الله" إذا لزم الأمر. والجدير ذكره أنه قبل أيام قليلة من الاغتيال، أصدرت "كتائب حزب الله" بيانا أعلنت فيه استعدادها لدعم حزب الله "حتى النهاية"، وعرضت تقديم المقاتلين والموارد.
ولكن يبدو أن مقتل قائد "كتائب حزب الله" لعب دورا عكسيا، بدلا من أن يشكل رادعا، ما يوحي باحتمال الذهاب إلى مزيد من التصعيد. إلى جانب ارتفاع معدل نجاحها في استهداف المناطق الإسرائيلية، فقد حسنت "المقاومة الإسلامية في العراق" من قدرتها على إصابة أهدافها. ففي الخامس والعشرين من سبتمبر، أصابت اثنتان من الهجمات الخمس التي نفذها التحالف أهدافا داخل إسرائيل: مبنى في وادي عربة وميناء إيلات. وهو الأمر الذي يشير إلى إمكانية قطعهم شوطا كبيرا في تحسين قدراتهم أو أنهم يتلقون المساعدة من مشغل أكثر مهارة، مثل إيران أو "حزب الله" أو "الحوثيين". أو ربما هم يمتلكون هذه المهارات والتكنولوجيا طوال الوقت لكنهم اختاروا عدم استخدامها بشكل فعال حتى الآن.
وفي كلتا الحالتين، تبدو "المقاومة الإسلامية في العراق" الآن قادرة على إلحاق الضرر بإسرائيل أكثر من أي وقت مضى. لكن وكما يُظهر التصعيد الحالي في لبنان، لم تعد إسرائيل مستعدة لقبول مثل هذا المستوى المرتفع من المخاطر.
عندما تمتد نيران الحرب وتستعر ألسنتها، فإن العراقيين والسوريين، مثلهم في ذلك مثل الفلسطينيين واللبنانيين من قبلهم، سيجدون أنفسهم عالقين في مرمى نيران صراع لم يشعلوه
إن غياب الرد الإسرائيلي الفوري لا يعني أن تل أبيب تبدي تسامحا على الإطلاق- لكن ببساطة ربما يعكس أولويات أخرى، مثل تركيزها الحالي على "حزب الله"، أو أنه مجرد قرار استراتيجي بتجنب فتح جبهة ثالثة على طول حدودها مع سوريا. ومع ذلك، يمكن لهذه الحسابات أن تتغير بسرعة إذا أصبح التهديد الذي تشكله "المقاومة الإسلامية في العراق" كبيرا لدرجة أنها لا تستطيع تجاهله، أو إذا تسببت إحدى هجماتها بأضرار جسيمة تستوجب ردا إسرائيليا سريعا، كما رأينا في الضربة التي وجهها "الحوثيون" لتل أبيب.
لا يبدو مثل هذا السيناريو مستبعدا أو غير قابل للتحقق. إذ تميل هذه المناوشات المتبادلة إلى اكتساب حياة خاصة بها، ما يغذي المزيد من التصعيد، لاسيما عندما لا يبدو أي من الأطراف المعنية مستعدا للظهور كما لو أنه يتراجع. وإذا ترافقت هذه الديناميكية مع احتمال كبير لخطأ في الحسابات أو لسوء في التقدير، فإنها تقدم وصفة مثالية لوقوع الكارثة، حيث تصبح النوايا الأصلية للأطراف المعنية أقل أهمية من زخم الصراع نفسه.
وعندما تمتد نيران الحرب وتستعر ألسنتها، فإن العراقيين والسوريين، مثلهم في ذلك مثل الفلسطينيين واللبنانيين من قبلهم، سيجدون أنفسهم عالقين في مرمى نيران صراع لم يشعلوه ولا يتحكمون بسيرورته، وسوف يدفعون في النهاية ثمنا باهظا بسبب قرارات اتخذت خارج حدودهم.