ليس بالأمر العادي على أي إنسان يدعي معرفة تاريخ لبنان وسياساته المتفجرة أن يفاجأ بمجريات الحرب الأخيرة المستعرة بين "حزب الله" وإسرائيل. بل من الجنون، إن لم نقل الهرطقة، الإصرار على أن تفادي الحرب كان ممكنا، لاسيما أن "الحزب"– المرتبط بإيران سياسة وتمويلا- ومنذ عقود، أصبح أكبر من حجمه اللبناني، ومنذ حرب يوليو/تموز 2006 أصبح لديه فائض من الإحساس "بالانتصارات الإلهية" المترافقة ورائحة البارود التي جعلت من "شرنقته اللبنانية المؤسسة" تضيق به وبتوزع أنشطته في الداخل أو عبر الحدود.
خطوات "الحزب" داخليا وخارجيا تدفع للبحث عن طرق ممكنة، خسائرها أقل، تخرج لبنان وشعبه من جحيم إيراني–إسرائيلي بطريقة تخفف من "الارتطام" المتوقع والذي سينتج عن تحلل سردية "حزب الله" ومحوره الممانع. خروج يبدو أكثر من ضروري بغياب مقومات العيش والخوف من تدمير مرتقب يدفع ثمنه كل اللبنانيين بما فيهم "البيئة" المباشرة.
اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله الأسبوع الفائت ليست ضربة عسكرية ربما تكون قاضية لقيادة "حزب الله" و"الحرس الثوري" الإيراني فحسب، بل رسالة إيقاظ عنيفة لما تبقى من فكرة "حزب الله" الذي يؤمن بأن "الجهاد" يسمو على الكيانات العربية التي يحتلها وكلاء إيران وحلفاؤهم المحليون. نكبة شيعة نصرالله الفعلية، بدأت بمصرع سردية "حزب الله" التي مهدت الطريق أمام التدمير الممنهج لآلته العسكرية.
يركز البعض في تحليلهم للمعركة بين إسرائيل و"الحزب" على الشق التقني للنزاع، ويعتقد هؤلاء أن إسرائيل قادرة على تكبيده خسائر كبيرة، بسبب القدرة التكنولوجية والتفوق العلمي الواضح في ترسانة الجيش الإسرائيلي وأجهزة مخابراته، التي استطاعت أن توجه ضربة قاسية لـ"الحزب" وعناصره، بعدما شوهت وجوههم وعيونهم عبر عملية أمنية سميت "عملية البيجر" والتي تركت أكثر من 1500 من الأعضاء في حال من التشوه الجسدي ولربما الأهم النفسي.
في الواقع، إن "حزب الله" لم يسقط في الميدان العسكري بل انتحر أو نحر نفسه عندما تخلى عن سرديته المؤسسة والتي خُطت في "رسالة مفتوحة إلى المستضعفين" عام 1985، وذلك بعد ثلاث سنوات من عمله تحت راية "حركة الجهاد الإسلامي" التي استعمل اسمها مؤسس "الحزب" عماد مغنية ورفاقه لتفجير مقر المارينز والسفارة الأميركية وخطف الأميركيين وغيرهم من الرهائن الغربيين في بيروت. هؤلاء المخطوفون الذين بادلتهم إيران بصفقة أسلحة إسرائيلية حاربت بها العراق. تلك الحقبة ولسبب من الأسباب اختار اللبنانيون والمجتمع الغربي تجاهلها أو عدم تسليط الضوء عليها، منذ منتصف التسعينات.
مشروع "حزب الله" التأسيسي المعلن كان نصرة المستضعفين وتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي لأراضي لبنان آنذاك، محاولا اللحاق بالأحزاب اليسارية والوطنية التي سبقته، فيما كان مؤسسوه منهمكين بتفجير المصالح الغربية وخطف الصحافيين وترسيخ وجودهم في البيئة الشيعية اللبنانية.
في واقع الحال، لم يمتز "حزب الله" عن غيره من "المقاومين" آنذاك إلا بدعوته المتدينة، أما رؤيته للصراع اللبناني الداخلي فكانت تتعلق بـ"حق" إقامة جمهورية إسلامية مقابل "المارونية السياسية" واعتبار الحكم في لبنان نتاجا للإمبريالية الزائلة والتي ستستبدل بولاية الفقيه وبسلطة روح الله الخميني. ورغم الأصولية الفكرية والدينية لـ"حزب الله" فإنهم أبقوا على رسالة علنية تظهرهم معنيين فقط بـ"تحرير" الأرض، مقابل ترك الغنائم لأصحاب السلطة وأتباع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، محاولين إخفاء دورهم الوظيفي الضالعين فيه تحت اسم "المقاومة" مقابل الحماية الداخلية سورياً، والتمويل القادم من النفط الإيراني.
في مايو/أيار من عام 2000 انتهى الدور الوظيفي تحت شعارات "المقاومة" مع انسحاب إسرائيل من لبنان، فعاد "الحزب" إلى دوره الحقيقي تدريجيا وصولا إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شتاء عام 2005. أي التقدم إلى الصفوف الأمامية لإدارة السلطة ووضع اليد مع "المنظومة" على مقدرات البلد ونهبها.