نكبات لبنانية "لا بد منها" لإنهاء الدور الوظيفي

"حزب الله" لم يسقط في الميدان العسكري... بل انتحر

 أ ف ب
أ ف ب
نازحون فروا من بيوتهم في جنوب لبنان يحتمون في موقف للسيارات في مدينة صيدا في 29 سبتمبر

نكبات لبنانية "لا بد منها" لإنهاء الدور الوظيفي

ليس بالأمر العادي على أي إنسان يدعي معرفة تاريخ لبنان وسياساته المتفجرة أن يفاجأ بمجريات الحرب الأخيرة المستعرة بين "حزب الله" وإسرائيل. بل من الجنون، إن لم نقل الهرطقة، الإصرار على أن تفادي الحرب كان ممكنا، لاسيما أن "الحزب"– المرتبط بإيران سياسة وتمويلا- ومنذ عقود، أصبح أكبر من حجمه اللبناني، ومنذ حرب يوليو/تموز 2006 أصبح لديه فائض من الإحساس "بالانتصارات الإلهية" المترافقة ورائحة البارود التي جعلت من "شرنقته اللبنانية المؤسسة" تضيق به وبتوزع أنشطته في الداخل أو عبر الحدود.

خطوات "الحزب" داخليا وخارجيا تدفع للبحث عن طرق ممكنة، خسائرها أقل، تخرج لبنان وشعبه من جحيم إيراني–إسرائيلي بطريقة تخفف من "الارتطام" المتوقع والذي سينتج عن تحلل سردية "حزب الله" ومحوره الممانع. خروج يبدو أكثر من ضروري بغياب مقومات العيش والخوف من تدمير مرتقب يدفع ثمنه كل اللبنانيين بما فيهم "البيئة" المباشرة.

اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله الأسبوع الفائت ليست ضربة عسكرية ربما تكون قاضية لقيادة "حزب الله" و"الحرس الثوري" الإيراني فحسب، بل رسالة إيقاظ عنيفة لما تبقى من فكرة "حزب الله" الذي يؤمن بأن "الجهاد" يسمو على الكيانات العربية التي يحتلها وكلاء إيران وحلفاؤهم المحليون. نكبة شيعة نصرالله الفعلية، بدأت بمصرع سردية "حزب الله" التي مهدت الطريق أمام التدمير الممنهج لآلته العسكرية.

يركز البعض في تحليلهم للمعركة بين إسرائيل و"الحزب" على الشق التقني للنزاع، ويعتقد هؤلاء أن إسرائيل قادرة على تكبيده خسائر كبيرة، بسبب القدرة التكنولوجية والتفوق العلمي الواضح في ترسانة الجيش الإسرائيلي وأجهزة مخابراته، التي استطاعت أن توجه ضربة قاسية لـ"الحزب" وعناصره، بعدما شوهت وجوههم وعيونهم عبر عملية أمنية سميت "عملية البيجر" والتي تركت أكثر من 1500 من الأعضاء في حال من التشوه الجسدي ولربما الأهم النفسي.

في الواقع، إن "حزب الله" لم يسقط في الميدان العسكري بل انتحر أو نحر نفسه عندما تخلى عن سرديته المؤسسة والتي خُطت في "رسالة مفتوحة إلى المستضعفين" عام 1985، وذلك بعد ثلاث سنوات من عمله تحت راية "حركة الجهاد الإسلامي" التي استعمل اسمها مؤسس "الحزب" عماد مغنية ورفاقه لتفجير مقر المارينز والسفارة الأميركية وخطف الأميركيين وغيرهم من الرهائن الغربيين في بيروت. هؤلاء المخطوفون الذين بادلتهم إيران بصفقة أسلحة إسرائيلية حاربت بها العراق. تلك الحقبة ولسبب من الأسباب اختار اللبنانيون والمجتمع الغربي تجاهلها أو عدم تسليط الضوء عليها، منذ منتصف التسعينات.

مشروع "حزب الله" التأسيسي المعلن كان نصرة المستضعفين وتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي لأراضي لبنان آنذاك، محاولا اللحاق بالأحزاب اليسارية والوطنية التي سبقته، فيما كان مؤسسوه منهمكين بتفجير المصالح الغربية وخطف الصحافيين وترسيخ وجودهم في البيئة الشيعية اللبنانية.

في واقع الحال، لم يمتز "حزب الله" عن غيره من "المقاومين" آنذاك إلا بدعوته المتدينة، أما رؤيته للصراع اللبناني الداخلي فكانت تتعلق بـ"حق" إقامة جمهورية إسلامية مقابل "المارونية السياسية" واعتبار الحكم في لبنان نتاجا للإمبريالية الزائلة والتي ستستبدل بولاية الفقيه وبسلطة روح الله الخميني. ورغم الأصولية الفكرية والدينية لـ"حزب الله" فإنهم أبقوا على رسالة علنية تظهرهم معنيين فقط بـ"تحرير" الأرض، مقابل ترك الغنائم لأصحاب السلطة وأتباع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، محاولين إخفاء دورهم الوظيفي الضالعين فيه تحت اسم "المقاومة" مقابل الحماية الداخلية سورياً، والتمويل القادم من النفط الإيراني.

في مايو/أيار من عام 2000 انتهى الدور الوظيفي تحت شعارات "المقاومة" مع انسحاب إسرائيل من لبنان، فعاد "الحزب" إلى دوره الحقيقي تدريجيا وصولا إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شتاء عام 2005. أي التقدم إلى الصفوف الأمامية لإدارة السلطة ووضع اليد مع "المنظومة" على مقدرات البلد ونهبها.

عمليا، إن سببية تأسيس "حزب الله" هي الحاجة لقاعدة متقدمة لإيران على البحر المتوسط

ورغم انتفاء بقاء سلاحه بسبب الانسحاب الإسرائيلي، فإن "الحزب" بممارسة إبداعه الأيديولوجي بشكل متجدد ليجعل من مهمته تدمير الكيان الصهيوني وتحرير القدس مُشعلا حرب عام 2006، ومحتلا المناطق اللبنانية وصولا إلى السيطرة على الدولة ومقدراتها.
عمليا، إن سببية تأسيس "حزب الله" هي الحاجة لقاعدة متقدمة لإيران على البحر المتوسط، تقاتل نيابة عنها بطرق مختلفة، وأدت الحرب بين "الحزب" وحركة "أمل" في الثمانينات إلى تقاسم وظيفة هذا التنظيم بين طهران ودمشق، ليتحول هذا المشروع إلى خطة طورتها إيران و"حرسها الثوري" قبل أن تستنسخ "حزب الله" في العراق والحوثيين في اليمن، فتحولت هذه القوى إلى منظومة ردعية وتحول "الحزب"، بدروه، إلى شريك في تأسيسها ووصي عليها وعلى تطوير قدراتها القتالية، وإضعاف الدول التي تعيش فيها، لتتحول عصابات مسلحة تحمل خطابا مذهبيا مرتبطة بالفساد.

 رويترز
ملصقات تحمل صورة حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت في 29 سبتمبر

هو "نصير المستضعفين ومحرر الأرض"، بشعار مثل هذا استطاع "الحزب" أن يبني سردية "التنظيم الحديدي المتماسك" والقادر على تطوير ذاته مقارنة بأفضل جيوش العالم، فيما نسي الناس أن تسليحه وتدريبه وقتاله ينتمي إلى القرون الوسطى، ففي المواجهات العديدة الجدية بينه وبين إسرائيل في أعوام 1993 و1996 و2006 فشل "الحزب" في منع إسرائيل من تدمير الجنوب والبنى التحتية اللبنانية، ورغم ذلك صمدت سرديته المقاومة بسبب احتضان اللبنانيين لها، رغم معرفتهم بوظيفته ضمن مشروع طهران المذهبي.
بدأت التصدعات في سردية "الحزب" بالظهور بعد اغتيال رفيق الحريري ثم بعد دخوله في حرب 2006 ومحاولة انقلابه على الدولة في ما عرف بأحداث 7 مايو 2008 ليتوج تحوله المذهبي في خروجه للقتال ضد الشعب السوري، فـ"تحور" نصير المستضعفين المتجذر في ثقافة الحسين بن علي إلى المستكبر الأكبر، وتحولت اهتماماته ضمن الأمة من تدمير إسرائيل إلى القتال في سوريا والعراق واليمن وحتى التدخل في النزاع على الصحراء الكبرى.
أتت الحرب المستعرة اليوم لإظهار حقائق يمكن وصفها بالمُرّة، حيث أظهرت ضعف هذا "الرمح" الإيراني وأصابته بضرر كبير وهشمت سرديته، فلم يستطع أن يحمي جمهوره ولا حتى عناصره وقادته، ولم يعكس جاهزية أمنية وعسكرية تليق بخطابه القتالي، فوقع مسؤولو الصفوف الأولى والثانية والثالثة طوال أشهر بنيران إسرائيلية، ليختمها بـ"موقعة البيجر" حيث فقد آلاف من عناصره عيونهم وأصابعهم، والبعض منهم حياته. والأسوأ من كل ذلك أنه لم يقم بأي خطوة لحماية المدنيين في جنوب لبنان، وتركهم عرضة للتهجير والنزوح في ظل القصف والغارات الإسرائيلية، في مشهد مؤلم امتنع "الحزب" فيه حتى عن تنظيم السير أو توزيع الماء والمواد الإغاثية الأساسية، تاركا الحكومة "المبتورة" تحاول إنقاذ النازحين وتتحرك سياسيا كأنها أداة عنده، والأسوأ من ذلك قيام "الحزب" بتحويل القرى والمدن اللبنانية كافة إلى مخازن للصواريخ والذخائر والتي قدمت للإسرائيلي الحجة والبرهان لسفك المزيد من دماء الأبرياء.
الخديعة الكبرى في سردية "الحزب" هي "الأب الإيراني"، القادر على الصمت والانحناء بسرعة أمام "العواصف" السياسية. فهذا "الأب" بقي لسنوات يرفع صوته مهددا إسرائيل والغرب، وخصوصا عند أي خطر يطال "الحزب" ومن معه من "المحور" فلسطينيا ويمنيا وعراقيا، ليفاجئ الجميع بصمته بعد تهجير أهل الجنوب وقبلهم أهل غزة، ليأتي رده المدوي من قاعة الأمم المتحدة في نيويورك على لسان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ونائبه محمد جواد ظريف مبلغين عن استعدادهما للتعاون والعودة إلى المحادثات النووية تاركين لبنان وأهله "يقلعون" شوكهم بأيديهم.
لطالما رفضت أدبيات "حزب الله" وممارسته السياسية الاعتراف بالدولة اللبنانية، فمنذ رسالته إلى العالم، إلى حين دخوله الحكومة اللبنانية بعد اغتيال رفيق الحريري، رفض "الحزب" اتفاق الطائف، ورفض ولو ظاهريا أن يدخل في لعبة المحاصصة تاركا المجال لحليفه الشيعي نبيه بري بتحمل ثقل السلطة، ومن هنا بقي بين دولة "حزب الله" والدولة اللبنانية حائط ناري مكنه من التخفي والاختباء وراء مؤسسات الدولة ليستفيد من نظامها الزبائني من دون تحمل أي مسؤولية. ففي صيف 2006، وبينما كان على شفير الهزيمة السياسية والعسكرية، جاء تدخل الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة بمثابة إنقاذ له، حيث استحصلت الدبلوماسية اللبنانية على قرار مجلس الأمن الدولي 1701 ليتأسس عليه ادعاؤه بـ"نصره الإلهي".

شعارات طهران التي خطت على جدران بيروت الغربية في أواسط الثمانينات، ومنها "الحكم لحزب الله" قد أصبحت أهم من دستور البلد

الوضع الحالي وما سبقه من تدمير "الحزب" للدولة اللبنانية واقتصادها بالتشارك مع "المنظومة" أزال الحصانة عن السردية المقاومة، فلم يتمكن نصرالله من الاختباء وراء رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير خارجيته، ولم يستطع هذان أن يحصلا على ثقة المجتمع الدولي لإنهاء الحرب، والأهم الأموال لإعادة الإعمار، ما يعني أن المرحلة المقبلة لن تكون أفضل الظروف عليه وعلى اللبنانيين حتى.

رويترز
مؤيدون لزعيم "حزب الله" يرفعون صوره في صيدا في أعقاب الإعلان عن مصرعه في 28 سبتمبر

"حزب الله" قد يُهزم أمام إسرائيل، ليس بسبب التكنولوجيا الرديئة والمتخلفة التي بحوزته، بل ببساطة بسبب عقم أيديولوجيته وفشلها في التأقلم مع التغيرات المحلية والعالمية. وهي عقيدة فشلت في الحفاظ على أقل الحقوق الإنسانية في مجتمعنا اللبناني، أي البقاء في الأرض من دون خوف. والظاهر أن تاريخه مع اللبنانيين، وتحوله إلى سلطة قمعية تكمل وظيفتها الخارجية دفعت الكثيرين إلى التنبه من أن نهايات هذه الحرب لن تكفي لاحتوائه في الداخل وتعيده إلى صواب المواطنة، خاصة إذا خرج مكسورا وأصبح النازحون مهجرين إلى أجل غير مسمى.
وفي فبراير/شباط من سنة 2018 شارك الصديق لقمان سليم بمحاضرة في دولة الإمارات تحت عنوان "فك شيفرة حزب الله"، لقمان، الذي اغتاله عناصر "الحزب" في فبراير عام 2021 في قرية مزرعة نيحا الجنوبية والتي تقبع الآن تحت الدمار، قام بتذكير الحضور بأن "حزب الله" الذي يمكنه الدخول إلى ألعاب الأطفال وغرف النوم ومخادع الناس هو أخطر بكثير من انتشاره العسكري من البحر الأحمر إلى ضفاف المتوسط.
محاضرة لقمان آنذاك حُرفت من "حزب الله" وأبواقه ولم يسمع الأهالي في حارة حريك وجبل عامل والبقاع ما يقوله وأقرانه ولا اتعظوا من تحذيراته ودعوته بأن تبدأ محاصرة "الحزب" من خلال تفنيد أسباب بقائه ومنها ضعف مفهوم الدولة.
ختم لقمان كلامه آنذاك وبواقعية مفرطة عادت إلى ذهني وأنا أرى من أرادوا خوض البحر مع "سيد المقاومة" ومعهم نساء وأطفال ونساء، في الطرق وفي قاعات المدارس ومراكز الإيواء التي فتحت للنازحين. يومها قال بعربيته المسبوكة: 
"هل يمكن اليوم محاصرة (حزب الله) عسكريا فقط؟ بالطبع لا. ولكن هل يجب محاصرته عسكريا؟ نعم. السؤال التالي: هل يمكن القيام بذلك من دون التسبب بأضرار جانبية؟ وجوابي هو لا. هذه الأضرار الجانبية ستقع على لبنان وعلى الشيعة. لا بل، أختم، الحديث الذي يقول: الناس نيام إذا ماتوا استيقظوا؟ أخشى أن الشيعة اليوم بحاجة لنكبة لكي يستفيقوا مما هم فيه... علينا الاستنتاج بأن الحفاظ على استقرار لبنان ومحاربة (حزب الله) هو تناقض لغوي، لأنه لا يمكن محاربة (حزب الله) من دون المخاطرة بما يسمى الاستقرار في لبنان".
الشعب اللبناني- وخصوصا الشيعة- امتهن النكبات، ولكن في حال نكبتنا المستمرة يجب عليه إن أراد تفادي تكرار المآسي وسفك الدماء أن يعي بأن الطريقة الوحيدة لإنهاء حالة الشذوذ التي يتخذ "حزب الله" عنوانا لها، أن يعود إلى أساسيات العمل السياسي وأن يؤسس جبهة تمنع السردية االتدميرية من أن تصبح أقوى من المنطق وأغلى من حياة البشر.
الوقت حان لطرح كافة الأسئلة الصعبة، ليس على "حزب الله"، بل على اللبنانيين- أو بعضهم- الذين تمرسوا على النفاق والباطنية السياسية، ويستمرون في رفض بناء وطن يقزم ويمنع انتشار أمراضنا السياسية المزمنة. لبنان وصل إلى هذا الدرك ليس بسبب سلاح إيران فحسب، بل لأن شعارات طهران التي خطت على جدران بيروت الغربية في أواسط الثمانينات، ومنها "الحكم لحزب الله" قد أصبحت أهم من دستور البلد، وهذه حقيقة مُرة لا يمكن لأي أحد من "زنادقة" السياسة تفاديها.

font change

مقالات ذات صلة