هل يمكن "محو" الماضي (التراث) كي نستسلم لما هو حاضر أي الجديد؟ هل يمكن إحداث قطيعة مع ألوف السنوات أو أكثر لكي نقدّم ما هو "حديث" ابتداء باللغة أو بالشعراء والرواية أو الفلسفة، لكي يتسنّى تجاوز ما تركه السالفون، تحت راية أن الماضي عبء على الزمان والمكان؟ هل يمكن كشعراء أو ككتّاب أو كمسرحيين أن ننقطع، عمّا خلّفه هؤلاء من إرث، ونطالب كما طالب بعض الكتّاب باجتثاث "التراث" أو تفجير اللغة أو تغييرها بأخرى؟
في ستينات القرن الماضي، ظهرت اتجاهات خصوصا في لبنان ومصر باعتماد "اللغة العامّية"، واعتبار أننا غير لبنانيين، بل نحن فينيقيون، والمطالبة بتغيير اللغة العربية وإحلال الحرف اللاتيني بدلها. هذا في لبنان أما في مصر فكانت هذه الظاهرة أقوى، عندما أعلنت الجماعات "أنها ليست مصرية ولا عربية ولا إسلامية بل فرعونية". وهكذا حاول هؤلاء إلغاء مجمل الهويات الوطنية والعربية واللغوية... بطريقة حاسمة، كأنما يخترعون زمنا بلا جذور وأرضا بلا هُوية. كأن تقسم الجسد منذ ولادته. وأن تلغي كل الشعراء والكتاب والمسرحيين... وما عبر وما اختزن في رؤوسنا من ثقافتهم. بمعنى آخر كل هذا يعني تبديل الذاكرة الألفية لقاء ذاكرة لا تذكر. أوليس هذا ما يفعله اختراع "الروبوت" ليحلّ محل الأمكنة والناس؟
نحن نفهم أن الماضي نسبي في تعاملنا معه، وانه ككل ماضٍ فيه ما يبشِّر بالخير وما يُنذر بالشرّ، ما يبشّر بالوجود وما ينفيه (كبعض الاتجاهات والفلسفات). أي نفهم أن ليس كل ما هو في الماضي يصلح للحاضر، وأن الماضي مليء بالحروب والغزو والقتل والاستعمار، لكن هذا لا يعني أن يعتبر كل ما فيه عكس التطوّر والتقدم. إنها لحظة حركة النهر تصل إلى البحر بلا ذاكرة. إنها المستقبلية التي ترفض كل ما تراه معرقلا لتطوير الزمن أو للتاريخ الآتي أو الذي سيأتي.
ليس كل ما هو في الماضي يصلح للحاضر لكن هذا لا يعني أن يعتبر كل ما فيه عكس التطوّر والتقدم
من جهة أخرى هناك المتمسّكون بالماضي كأنه طور أبدي من الأسمنت ولا بديل منه. أي أن الماضي خالد خلود العالم، بكلّ ما فيه، ولا يمكن تغييره أو المسّ به، فهو المقدس يتمسّكون بكلّ ما فيه ويرفضون كل تغيير ومحاولة لإقامة حوار مع ما يتغيّر. فلا أصحاب النظريات الأيديولوجية المستقبلية "على حق" ولا التراثيون... فالاثنان يقومان بتجريد الأمكنة والأزمنة، واحد إلى الوراء وآخر إلى الأمام، الأوّل من صنع التنبؤ الماضوي، والآخر من صنف التنبؤ المستقبلي، الأوّل يقطع الجذور والآخر يقطع الزمن...
فمن العبث أن ندير ظهورنا، أن ننغلق على الماضي لكي لا نفكّر في المستقبل. إن التناقض بين المستقبل والماضي أمر عبثي. فالمستقبل لا يحمل لنا أي شيء، ولا يعطينا سوى اللاشيء. فلكي نبنيه علينا إعطاؤه كل شيء، نمنحه حياتنا نفسها. ولكن لكي نعطي يجب أن نمتلك، ونحن لا نمتلك حياة أخرى سوى الكنوز الموروثة وتجديدها.
من كل حاجات النفس البشرية ليس هناك أكثر حيوية من الماضي. فحبّ الماضي لا علاقة له بالتوجهات السياسية الرجعية أو سواها، ككل نشاطات الإنسانية. فالثورة تغتذي كل حياتها من موروث... وفي بداية القرن الماضي، قليل من الأمور في أوروبا كانت أقرب من العصر الوسيط، وكذلك النهضة العربية.
الماضي مدمّرا لا يعود أبدا. تدمير الماضي هو ربما "الجريمة الكبرى". اليوم، الحفاظ على ما تبقى يجب أن يكون فكرة ثابتة، يجب التوقف عن الإقتلاع، اقتلاع الجذور التي تبثها ثقافة التكنولوجيا الرهيبة، التي تختلق عالما جديدا منقطعا عن الماضي، وحاضرا لا نعرف بداياته ولا نهايته. بل تشيئ الحياة وتحاول انتزاعها من تواريخها ببدائل التقنيات. فهذا يعني أن كل شيء في طريقه إلى الزوال. الإنجازات الأدبية، والعادات، والتطور، بات الزمن كأنه لم يعد زمن الإنسان: زمن إلاقتلاع الدائم لكل زمن ماضٍ أو حاضر أو ماضٍ..
ولهذا علينا محاورة من لا يزالون في زمن آخر، وكذلك من يزالون في زمن الحاضر المنفي والمستقبل الحجري، خصوصا الكتاب والشعراء والفلاسفة وأهل المسرح والفكر والسينما، فهم الوحيدون القادرون على فهم الحداثة، وهنا المشكلة الكبرى مع ذوي النظرة المستقبلية. كأنها فأس قاطعة لكل ما سبقها تحت عناوين "التجاوز"، و"اغتصاب اللغة" والتسابق بين بعض الشعراء على من ينفصل عن قديمه باسم جديده. وهنا نتذكر من ورثوا من المدرسة الدادائية مبدأ مواجهة كل ما سبق، وتدمير مفاهيم القصيدة، واللغة، والبلاغة، والتاريخ، وتكريس مقولة أن كل إنسان هو شاعر سواء كان مثقفا أو غير مثقف، أي خلع اللغة عن عرشها وتسويقها، واحتقارها: شعر بلا لغة، ولغة بلا شعر، وقد اقتبس بعض شعرائنا العرب هذا الجنون، ليكرّسوا الحداثة الجديدة، الضاربة في أفكار كلّ ما سبقها. إن هذا النوع من الاستيراد أصاب هؤلاء عندما انتقلوا من الدادائية إلى السوريالية، فصار كل نصّ فوضوي، لا واع، ولا مسوغ، هو رهان على المستقبل، وقد فرض زعيم السوريالية أندره بريتون، سلطته المطلقة وخلط السوريالية بالأيديولوجيا الشيوعية (الماركسية)، ثم إذا بها فجأة في حضن الفرويدية، في مزيجٍ غريب وهلوسة شعرية، أشبه بالثرثرة. فانتقل بعضهم إلى الموقع المضاد تحت عنوان اللغة، فانضموا إليها، وانطلقوا يبشّرون بها، وبأصولها وروافدها، وتعميمها ببيانات تدعو إلى تجاوز الرومنطيقية، باعتبارها نصوصا غير مجدية لا صناعة فيها ولا إتقان، أوقعت الشعر في المباشرة، بلا تأويل، وبلا معانٍ مشفرة، أو مشغولة.
لم يتوصل أحد من هؤلاء سوى إلى تحديدات ملتبسة عن الحداثة، منها شروط الغموض، والإيحاء، والتأويل المتعدد
لم يتوصل أحد من هؤلاء سوى إلى تحديدات ملتبسة عن الحداثة، منها شروط الغموض، والإيحاء، والتأويل المتعدد. نعني أن كل مضامين هؤلاء مستعارة من المدارس الشعرية الفرنسية، التي تضع تحديدات الشِّعر جاهزة لكتابة القصيدة، لكن بعض الشعراء الكبار عرفوا كيف يتعاملون مع هذه الانفتاحات، ويستفيدون منها، باعتبارها مواد أولية يستمدون منها نصوصا في كتابة قصائدهم، وهذا هو المطلوب، فمن جهة حضنوا التراث كعامل مهم ثم صاغوا أعمالهم بلغة تذيب ما ورثوه من قديمهم وما استغلوه من حداثتهم. فالحداثة ترافق كل جديد، لا بطريقة ثابتة وراجحة "بلغتها" حاملة التنوع، والموروث المغتذي من المعاصر الذي تأثروا به. فلا حداثة بلا ماضٍ، ولا ماضٍ بلا حداثة.
من هنا عرف هؤلاء أن الموروث كالحديث، هما يخضعان لعجينة واحدة. من هنا الأهمية، من هنا يناعة الجذور وثمارها...
أظنّ أن الأدب الحديث وفنونه وأفكاره، مهدّدة اليوم، بين فكيّ نزوعات الماضي والتكنولوجيا، بين الأمس، وما يعصف من حركات ارتدادها إلى الزمن السحيق، والزمن المشين في حضارة ملتبسة الإقامة والأفول، مع اندماج الثقافات بأنواعها، بالثقافة وسيادتها.
هنا الرهان الكبير للتراثي والجديد.