وضاح شرارة شخصية رئيسة في المشهد الثقافي والأكاديمي والفكري اللبناني منذ أكثر من نصف قرن. تجمع تجربته العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية إضافة إلى الرواية والنقد الأدبي. ويتحدر من جنوب لبنان الذي نال قسطا مهما من متابعاته ومؤلفاته. وشرارة المولود في 1942 خاض تجربة سياسية مميزة وهو المتحدر من عائلة لها إسهاماتها في الشعر والثقافة في حاضرة جبل عامل، مدينة بنت جبيل.
الزميل محمد أبي سمرا التقاه وسأله عما تشهده المنطقة ولبنان منذ عام وخصوصا بعد اغتيال أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله وانعاكاسات ذلك على السياسة والاجتماع الشيعيين، على خلفية صدور الطبعة السادسة من كتاب "دولة حزب الله... لبنان مجتمعا إسلاميا"، والطبعة الثانية من كتاب "الأمة القلقة: [الشيعة] العامليون [نسبة إلى جبل عامل جنوب لبنان] والعصبية العاملية على عتبة الدولة اللبنانية" الناشئة في عام 1920، وقد ظهرتا قبل شهر في بيروت عن "دار رياض الريس". وبعض عناوين كتب شرارة شاع استعمالها كمصطلحات أو مفاهيم، مثل "دولة حزب الله"، "السلم الأهلي البارد"، "حروب الاستتباع"، "المدينة الموقوفة"، و"خروج الأهل على الدولة".
في البداية، لم يكن هناك مفر من الحديث عن اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله وأثره على "الحزب" والطائفة الشيعية ولبنان. ورأى وضاح شرارة أن دور نصرالله في حزبه ومجتمعه قام على ركيزتين أو وجهين أساسيتين:
• دور خلاصي أخروي: وهو يجمع عناصر مركبة ومتداخلة في شخصيته التي توصف بـ"الكاريزمية". وقد انبنت هذه العناصر وجرى صوغها بالاختبار والتجربة الطويلة في إطار علاقة نصرالله بحزبه ومجتمعه اللصيق، طلّته وإيحاءاته ومخاطبته وإشاراته ومقدرته الخطابية. وهذه كلها تنهل من مخزون صوغ "حزب الله" وحسن نصرالله نفسه "العقيدة والتراث" الشيعيين صوغا جديدا في لغة جديدة. وتجتمع في هذه التجربة "الموهبة" و"السطوة" الشخصيتان في تفاعلهما مع "الحزب" ومجتمعه العريض، ومع الظروف والحوادث والوقائع والمنعطفات الاجتماعية والسياسية.
والأرجح أن نصرالله كان له دور بارز في صوغ ما يمكن تسميته "عالم حزب الله" ومجتمعه. ومثل هذه التجربة فريدة ولا تتكرر، لأنها متعلقة بشخصية نصرالله وبالظروف الاجتماعية والسياسية والعسكرية المحددة والمتدافعة في تجربته وتجربة حزبه منذ التسعينات وحتى اليوم. وهي أيضا تجربة قد يتفرّد فيها "حزب الله" عن سائر تجارب الأحزاب والتنظيمات العربية الأخرى. والتفرُّد هذا على صلة وثيقة وحميمة بـ"عالم حزب الله الخلاصي الأخروي" القائم على "الوفاء" و"الإخلاص" و"الصدق" و"الإلهام". وهذه تتمحور حول الاستعداد للاستشهاد والشهادة، وحول الوجه/الركيزة الثانية.
• دور بيروقراطي تنظيمي: وهذا يجمع أيضا عناصر مترابطة ومتداخلة: الاستنفار والحشد والتأطير والتنظيم والتكافل والتضامن، والرواتب والإعالة والتقديمات، وتأمين موارد مؤسسات "الحزب" الصحية والتعليمية والإسكانية، ورعاية عوائل الشهداء، وإقامة حفلات الزفاف الجماعية لعناصر من "الحزب" ومجتمعه، والمنظمات الكشفية وحوزات التعليم الديني وإحياء "مواكب الشهداء"، وسوى ذلك من المناسبات والطقوس والشعائر.
وهنا أيضا يمكن الحديث عن "عالم حزب الله" الداخلي، التنظيمي البيروقراطي الضخم، والذي جرى بناؤه كمجتمع نقيض. وكان دور حسن نصرالله- تبعا لدوره الأول المذكور أعلاه- فاعلا وربما أساسيا في بنائه وتشييده.
والحق أن هذين الدورين لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، بل هما متداخلان، مركبان ومتكاملان. والأرجح أن حسن نصرالله- شخصا وتجربة وصورة وخطابة ولغة وصوتا وإطلالة وإيحاءات- هو ثمرة المزاوجة بين الدورين أو الوجهين في مسار "حزب الله".
وإذا كان الدور أو الوجه الأول، الخلاصي الأخروي، لصيقا بشخصية نصرالله، فإن الوجه أو الدور الثاني، أي البيروقراطي التنظيمي، يمكن الحفاظ عليه وتطويره، إذا ما توافرت الظروف. لكن ربما من الصعب أن نكون مؤاتية في هذا الظرف العصيب الذي يمر فيه "حزب الله" ومجتمعه ولبنان.
وفي استعادة سريعة لتجارب الجماعات اللبنانية المريرة مع زعاماتها، يبدو أن تلك التجارب لم تكن قابلة للاستمرار والتكرار. فبعد اغتيال بشير الجميل في قمة توهجه كزعيم لـ"القوات اللبنانية" والمسيحيين، هيمن التفكك على "القوات"، وهيمن ما سمّي "الإحباط المسيحي" على المسيحيين. وبعد اغتيال رفيق الحريري تعرض "الإرث" الحريري للتصدع والانهيار.