سارع الجيش اللبناني إلى فرض طوق أمني على السفارة الأميركية في عوكر خارج بيروت، مع إعلان إسرائيل أن المستهدف في الغارات الإسرائيلية الأشد عنفا على المربع الأمني لـ"حزب الله" هو الأمين العام لـ"الحزب" حسن نصرالله. ومع إعلان نجاح الاغتيال، برز اسم هاشم صفي الدين، ابن خالة نصرالله وصهر قائد "فيلق القدس" السابق في "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني، والذي يحمل عداء عقائديا لأميركا، وهو ما فسر المخاوف التي دفعت الجيش إلى حماية السفارة.
صعد نجم صفي الدين بشكل صاروخي بوصفه خليفة نصرالله، والذي يُفترض أنه يدير معركة إعادة تأسيس تستعيد الزخم الأيديولوجي الذي طبع نشوء "الحزب"، بكل مخزونه الشعاراتي والولائي المرتبط بالمصالح الإيرانية والذي يتخذ من الإيمان المطلق بولاية الفقيه مرجعا شاملا للقيادة والمقاومة.
يحمل صفي الدين في شخصيته ومنهجه، وفق ما رشح عنه من معلومات، كتلة مواصفات تجعله رجل مرحلة ما بعد نصرالله، المتوافق مع معايير إيرانية تتطلب إدارة مشهد متناقض، جهادي وتفاوضي في الوقت نفسه. فهو قادر على تركيب نسقين من التفاوض: أحدهما التفاوض الدبلوماسي الناعم الأشبه بحياكة السجاد على الطريقة الإيرانية، والآخر هو التفاوض بالنار والدم.
تُوكل إيران لنفسها مباشرة إدارة العنوان السياسي، في حين تنيط بأذرعها إدارة العنوان الجهادي والحربي. وبما أن التفاوض مع الأميركيين، فلا بد أن تتجه إليهم أيضا عناوين الجهاد. من هنا يُلاحظ أن الإيحاءات التي وصلت إلى الأذرع المرتبطة بإيران تشدد على أن اغتيال نصرالله كان عملية أميركية بامتياز، لعبت فيها إسرائيل دورا تنفيذيا، ولم تكن ممكنة لولا الدعم الأميركي غير المسبوق الذي منح إسرائيل أسلحة غير تقليدية، تمكنها من تفجير أعتى التحصينات، فاستطاعت استهداف المربع الأمني الذي كان نصرالله يتحصن فيه مع عدد من قيادات "الحزب" والشخصيات الإيرانية العسكرية البارزة، وتدميره بشكل كامل.
يشكل صفي الدين المولود عام 1964 في بلدة دير قانون النهر بقضاء صور، بناءً على هذا التوجه الواضح، رجل الجهاد والحرب، الذي يحمل في رصيده مخزونا ناريا من الخطابات والمواقف المعادية لأميركا بشكل راديكالي وحاسم، ولا يقبل المساومة. كما تلعب بنيته الشخصية الصارمة والجدية والراغبة في الثأر دورا حاسما في تكريسه كقائد للمرحلة "الحسينية الجهادية" في الساحة اللبنانية ما بعد نصرالله.
عقدة الرجل الثاني
يوصف هاشم صفي الدين بأنه الرجل الثاني في "حزب" ليس فيه مكان فعلي لرجل ثانٍ. النفوذ الذي قيل إنه كان يتمتع به في "الحزب" بقي شكليا وعابرا، ولم يتجاوز إدارة الشؤون اليومية والتعاملات المالية وشبكة استثمارات "الحزب" التي تؤمن له- إضافة إلى الدعم الإيراني المباشر-مردودات ضخمة. لكن كل تلك الوظائف في "الحزب" كانت منفصلة عن اتخاذ القرارات الحاسمة والاستراتيجية، التي وضعت جميعها في يد الرجل الأول. بعد اغتياله، يمكن القول إن قصة "حزب الله" وتاريخه باتت مرتبطة بنصرالله بشكل لصيق.
ورث نصرالله الأمين العام الأسبق عباس الموسوي الذي اغتيل، وتشير المعلومات إلى أن اختياره لخلافته كان مقررا أن يقتصر على عام واحد، لكن ما أبداه نصرالله من قدرات قيادية، تستند إلى كاريزما شخصية وسيولة خطابية وقدرة على ليّ المواقف وتوجيهها لتتلاءم مع شبكات المصالح الإيرانية، دفعت المرشد الأعلى علي خامنئي إلى تزكيته للبقاء في منصب الأمين العام مدى الحياة. ومنذ تلك اللحظة في عام 1992 حتى لحظة اغتياله في 2024، صار "حزب الله" ملحقا بنصرالله ومصمما على قياسه.
أُعد هاشم صفي الدين لتولي خلافة نصرالله منذ عام 1994، وفي عام 1995 استدعي من قم، التي كان يدرس فيها الشريعة، إلى بيروت لتولي منصب رئاسة المجلس التنفيذي في "الحزب". بدأت رحلة الإقامة المرة تحت عباءة نصرالله، وخسر فيها كل معارك الحضور والدور والمكانة، إذ إن جهاز التمكين الأيديولوجي الدعائي الإيراني اجتهد في بناء صورة لنصرالله تُخرجه من سياقات العادي والبشري والتقليدي، وتدخله في بنية ترميز صلبة تجعله في موقع الاستثنائي والمقدس والاستراتيجي.
وشقيقه، عبد الله صفي الدين، وهو ممثل "حزب الله" في طهران، من ابنة رجل الدين الشيعي، محمد علي الأمين، عضو الهيئة الشرعية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في البلاد. كما تزوج ابنه، رضا، عام 2020 من زينب قاسم سليماني، ابنة القائد الإيراني البارز الذي اغتيل في هجوم أميركي بمسيّرة في بغداد مطلع العام نفسه.