هاشم صفي الدين... هل يكون "سنوار لبنان"؟

يفضل التفاوض بالنار والدم

أ ف ب
أ ف ب
رئيس المجلس التنفيذي في "حزب الله" هاشم صفي الدين في 13 اغسطس 2017

هاشم صفي الدين... هل يكون "سنوار لبنان"؟

سارع الجيش اللبناني إلى فرض طوق أمني على السفارة الأميركية في عوكر خارج بيروت، مع إعلان إسرائيل أن المستهدف في الغارات الإسرائيلية الأشد عنفا على المربع الأمني لـ"حزب الله" هو الأمين العام لـ"الحزب" حسن نصرالله. ومع إعلان نجاح الاغتيال، برز اسم هاشم صفي الدين، ابن خالة نصرالله وصهر قائد "فيلق القدس" السابق في "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني، والذي يحمل عداء عقائديا لأميركا، وهو ما فسر المخاوف التي دفعت الجيش إلى حماية السفارة.

صعد نجم صفي الدين بشكل صاروخي بوصفه خليفة نصرالله، والذي يُفترض أنه يدير معركة إعادة تأسيس تستعيد الزخم الأيديولوجي الذي طبع نشوء "الحزب"، بكل مخزونه الشعاراتي والولائي المرتبط بالمصالح الإيرانية والذي يتخذ من الإيمان المطلق بولاية الفقيه مرجعا شاملا للقيادة والمقاومة.

يحمل صفي الدين في شخصيته ومنهجه، وفق ما رشح عنه من معلومات، كتلة مواصفات تجعله رجل مرحلة ما بعد نصرالله، المتوافق مع معايير إيرانية تتطلب إدارة مشهد متناقض، جهادي وتفاوضي في الوقت نفسه. فهو قادر على تركيب نسقين من التفاوض: أحدهما التفاوض الدبلوماسي الناعم الأشبه بحياكة السجاد على الطريقة الإيرانية، والآخر هو التفاوض بالنار والدم.

تُوكل إيران لنفسها مباشرة إدارة العنوان السياسي، في حين تنيط بأذرعها إدارة العنوان الجهادي والحربي. وبما أن التفاوض مع الأميركيين، فلا بد أن تتجه إليهم أيضا عناوين الجهاد. من هنا يُلاحظ أن الإيحاءات التي وصلت إلى الأذرع المرتبطة بإيران تشدد على أن اغتيال نصرالله كان عملية أميركية بامتياز، لعبت فيها إسرائيل دورا تنفيذيا، ولم تكن ممكنة لولا الدعم الأميركي غير المسبوق الذي منح إسرائيل أسلحة غير تقليدية، تمكنها من تفجير أعتى التحصينات، فاستطاعت استهداف المربع الأمني الذي كان نصرالله يتحصن فيه مع عدد من قيادات "الحزب" والشخصيات الإيرانية العسكرية البارزة، وتدميره بشكل كامل.

يشكل صفي الدين المولود عام 1964 في بلدة دير قانون النهر بقضاء صور، بناءً على هذا التوجه الواضح، رجل الجهاد والحرب، الذي يحمل في رصيده مخزونا ناريا من الخطابات والمواقف المعادية لأميركا بشكل راديكالي وحاسم، ولا يقبل المساومة. كما تلعب بنيته الشخصية الصارمة والجدية والراغبة في الثأر دورا حاسما في تكريسه كقائد للمرحلة "الحسينية الجهادية" في الساحة اللبنانية ما بعد نصرالله.

عقدة الرجل الثاني

يوصف هاشم صفي الدين بأنه الرجل الثاني في "حزب" ليس فيه مكان فعلي لرجل ثانٍ. النفوذ الذي قيل إنه كان يتمتع به في "الحزب" بقي شكليا وعابرا، ولم يتجاوز إدارة الشؤون اليومية والتعاملات المالية وشبكة استثمارات "الحزب" التي تؤمن له- إضافة إلى الدعم الإيراني المباشر-مردودات ضخمة. لكن كل تلك الوظائف في "الحزب" كانت منفصلة عن اتخاذ القرارات الحاسمة والاستراتيجية، التي وضعت جميعها في يد الرجل الأول. بعد اغتياله، يمكن القول إن قصة "حزب الله" وتاريخه باتت مرتبطة بنصرالله بشكل لصيق.

ورث نصرالله الأمين العام الأسبق عباس الموسوي الذي اغتيل، وتشير المعلومات إلى أن اختياره لخلافته كان مقررا أن يقتصر على عام واحد، لكن ما أبداه نصرالله من قدرات قيادية، تستند إلى كاريزما شخصية وسيولة خطابية وقدرة على ليّ المواقف وتوجيهها لتتلاءم مع شبكات المصالح الإيرانية، دفعت المرشد الأعلى علي خامنئي إلى تزكيته للبقاء في منصب الأمين العام مدى الحياة. ومنذ تلك اللحظة في عام 1992 حتى لحظة اغتياله في 2024، صار "حزب الله" ملحقا بنصرالله ومصمما على قياسه.

 أ ف ب
صفي الدين مع المسؤول العسكري في "حزب الله" ابراهيم عقيل الذي اغتيل مؤخرا في صورة وزعها الحزب في 21 سبتمبر

أُعد هاشم صفي الدين لتولي خلافة نصرالله منذ عام 1994، وفي عام 1995 استدعي من قم، التي كان يدرس فيها الشريعة، إلى بيروت لتولي منصب رئاسة المجلس التنفيذي في "الحزب". بدأت رحلة الإقامة المرة تحت عباءة نصرالله، وخسر فيها كل معارك الحضور والدور والمكانة، إذ إن جهاز التمكين الأيديولوجي الدعائي الإيراني اجتهد في بناء صورة لنصرالله تُخرجه من سياقات العادي والبشري والتقليدي، وتدخله في بنية ترميز صلبة تجعله في موقع الاستثنائي والمقدس والاستراتيجي.

وشقيقه، عبد الله صفي الدين، وهو ممثل "حزب الله" في طهران، من ابنة رجل الدين الشيعي، محمد علي الأمين، عضو الهيئة الشرعية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في البلاد. كما تزوج ابنه، رضا، عام 2020 من زينب قاسم سليماني، ابنة القائد الإيراني البارز الذي اغتيل في هجوم أميركي بمسيّرة في بغداد مطلع العام نفسه.

أُعد هاشم صفي الدين لتولي خلافة نصر الله منذ عام 1994، وفي عام 1995 استدعي من قم

من الناحية الفقهية، يُعد صفي الدين من أبرز دعاة طمس معالم مرجعية النجف العربية، والركون إلى مرجعية قم، بما يعنيه ذلك من تغييب الأصول العربية للتشيع وخلق نسب فارسي مكتمل الأركان يقوم على تقديم الإمامة على النبوة، وبناء نسق ولائي عقائدي يجعل من الولي الفقيه صاحب الدين كله، ما يوجب على أتباعه الطاعة المطلقة والملزمة.
 يربط صفي الدين النظرية الفقهية بفكرة المقاومة، ويغلّب منطق التصعيد بشكل يتلاءم مع خيار الحرب بلبنان ومن لبنان، وهو الخيار الذي عبرت عنه القيادة الإيرانية بوضوح. كما أنه يتناسب مع مشاريع الارتداد إلى الداخل، مع وصم الرافضين لغلبة "الحزب" بتهم الصهينة والأمركة.

رويترز
صفي الدين يتحدث في تأبين المسؤول العسكري محمد ناصر في 4 يوليو

هاشم صفي الدين هو صاحب هذه المرحلة وسيدها، ويمثل القوة الغاضبة الثأرية، في مقابل ما كان يمثله حسن نصرالله من قوة نسج وبناء ومراكمة وتحايل وصفقات.


السنوار اللبناني

أعلن صفي الدين في لقاء حديث دعمه الكبير للمقاومة الفلسطينية قائلا: "تاريخنا وبنادقنا وصواريخنا معكم"، في مرحلة كان "حزب الله" لا يزال فيها يرد بالتناسب مع قواعد الاشتباك التي تتوسع وتضيق من دون أن تنفجر بشكل كامل. لكن هذه العبارة، مع التطورات الأخيرة، بصدد التحول إلى عنوان للقادم، الذي يعلن نجاح إيران في إقامة توازن لبناني فلسطيني مع نسختين مقاتلتين من يحيى السنوار (زعيم حماس خلفا لإسماعيل هنية)، تحت عنوان "القتال حتى آخر شخص".
ولطالما دافع صفي الدين، وفق ما ذكرته وسائل إعلام ومقابلات مع أشخاص عرفوه عن قرب، مثل محمد صادق الحسيني، عن مفهوم الدفاع عن النفس وانتزاع المقام بالتصعيد الأقصى والجهاد المفتوح والمتواصل، وربط الساحات ببعضها مهما كان الثمن. وعلى الضد من "الصبر الاستراتيجي" و"التراجع التكتيكي"، يعتبر الحرب شكلا وحيدا لمقاربة الأمور، وهي حرب لا يمكن أن تنتهي إلا بتحقيق النصر أو الموت.
بناء على مثل هذه المقاربة الجنونية، فإن الحرب التي قد يذهب إليها "سنوار لبنان" لا تهدف إلى تحقيق نتائج محددة وممكنة وتعبيد طريق السياسة، بل هي غاية في حد ذاتها. وأكثر من ذلك، إنها العقيدة نفسها وليست مجرد تطبيق لها.
من هنا، وعلى مشارف مرحلة شديدة القتامة على لبنان والمنطقة، وبعد سيل المجازر في غزة والشروع بارتكاب مجازر غير مسبوقة في لبنان، يظهر صفي الدين على لوائح العقوبات الأميركية بوصفه استكمالا لسياق الحرب بالموت الذي انفتح في غزة.
تغرق المنطقة، مع التقديرات التي تؤكد تولي صفي الدين زمام الأمور في "الحزب" الآن، في حرب المجانين الثلاثة: نتنياهو، والسنوار الفلسطيني، وقرينه اللبناني. دخل لبنان، ومعه المنطقة، في درب خراب عميم وطويل، ولا شك أن الآثار التي يتوقع أن تخلفها هذه الحرب، التي دخلت طورا تصعيديا متقدما للغاية مع مؤشرات الاجتياح البري الإسرائيلي للحدود اللبنانية، سوف تلقي بظلالها على مستقبل المنطقة. والاسم الحركي لذلك الظل الأسود هو "هاشم صفي الدين".

font change

مقالات ذات صلة