لبنان... الأمل الذي لا شفاء منه!

الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هذه المرة أخطر من أي وقت مضى

لبنان... الأمل الذي لا شفاء منه!

إحدى الوظائف الأساسية للمحلل هي رصد الحقائق وتفسيرها من خلال سياق يوضح معناها ويحاول التبنؤ بالنتائج. هذا مثل للتوضيح: لقي أكثر من 500 شخص في لبنان مصرعهم في غارات إسرائيلية متواصلة يوم الإثنين الماضي فقط. أضف السياق لتعلم أنه أكثر الأيام دموية في تاريخ البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990.

هذه واحدة أخرى: تشير الأرقام الرسمية حتى وقت كتابة هذه السطور إلى أن عدد الذين تركوا بيوتهم جراء القصف أو خوفا منه بلغ أكثر من 500,000 شخص. أضف السياق التاريخي فنذكر أن ما حدث قبل 18 عاما تضمن غزوا بريا لجنوب لبنان قد يحدث هذه المرة أيضا لتفهم أن عدد النازحين سيزيد بدون شك.

كيف تختزل حياة كاملة في أرقام؟

باردة لغة الأرقام. لا تترك مجالا كبيرا للمشاعر. تتحول من خلالها طفلة عمرها أربعة أعوام تظهر ضاحكة في مقاطع فيديو عند مصفف الشعر، إلى رقم في عدد الضحايا بعدما اختصرت حياتها آلة قتل لا تعرف التمييز. تتحول أسرة إلى رقم في عدد النازحين.

الأرقام تشير إلى أن لبنان مقبل على كارثة تجعلنا نشفق على الأحياء قبل أن نترحم على الموتى

بيد أن الأرقام لا تكذب. وهي الآن تشير إلى أن لبنان مقبل على كارثة تجعلنا نشفق على الأحياء قبل أن نترحم على الموتى، إذ لم يستطع الوسطاء العرب والدوليون إيقاف الغارات الإسرائيلية وصواريخ "حزب الله".

بلادي ليست جديدة على الكوارث. ولد لبنان بشكله الحالي من رحم الاتفاقات التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى. رسخت تلك الاتفاقات، كما يقول المؤرخ ديفيد فرومكين "سلاما لإنهاء كل سلام". ما أعقب الحرب الأولى من صراعات وحروب، وقدرة اللبناني على التأقلم معها، جعلتنا نتباهى بأن حبنا للحياة يجعلنا قادرين على الاحتفال ليلاً بعد يوم من القصف.

أخطر من أي وقت مضى

لكن العودة الى الأرقام والسياق تظهر أن الأزمة هذه المرة أخطر من أي وقت مضى. إذ يدخل لبنان الصراع الحالي مع إسرائيل بعدما عانى من أسوأ كساد اقتصادي في تاريخه، تخلفت خلاله الدولة عن سداد ديون بمليارات الدولارات للمرة الأولى، وانهارت فيه الخدمات العامة وفقدت الليرة أكثر من 90 في المئة من قيمتها.

فرضت المصارف إجراءات غير رسمية منعت المودعين من الحصول على كامل أموالهم. مع انهيار الليرة اللبنانية، لم يكن في وسع الملايين سوى مشاهدة مدخراتهم تفقد قيمتها يوما بعد يوم بلا حول ولا قوة. ماذا حدث للاقتصاد؟ انكمش الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 20 في المئة في عام 2020 و 10 في المئة في عام 2021، وحجم الاقتصاد اللبناني الآن أصغر مما كان عليه في عام 2006. 

في غياب خريطة طريق لإعادة الإعمار. ماذا عن النازحين؟ قد يؤدي عدم قدرتهم على سداد إيجارات البيوت المؤقتة أو توفير نفقات العيش إلى التوتر بينهم وبين مضيفيهم، وهو ما لم نشهده في 2006

خلال الحرب الماضية، 2006، حصل لبنان على دعم عربي ودولي ساعده في عبور الأزمة والانتعاش السريع بعدها. أودعت السعودية مليار دولار أميركي في مصرف لبنان المركزي خلال الحرب للحفاظ على قيمة الليرة، ووفرت مؤتمرات دولية دعما لإعادة الإعمار بعد وقف إطلاق النار ورفع الحصار الإسرائيلي. لم تتوقف أموال اللبنانيين في الخارج عن التدفق، مستفيدة من استقرار القطاع المصرفي وارتفاع أسعار الفائدة وعاد السائحون الخليجيون بعد الحرب.

كل ذلك ساعد الاقتصاد اللبناني في التعافي، لينمو بمعدل 9 في المئة سنويا بين عامي 2007 و 2010، قبل عام من اندلاع الحرب في سوريا. تاريخ لبنان الحديث عبارة عن سنوات من الصراع تتخللها فترات قصيرة من الاستقرار النسيى.  

لا يزال العالم راغبا بشدة في مساعدة لبنان. فالدول المانحة والمؤسسات المالية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، عرضت جميعها التدخل لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية. لم تقف إسرائيل أو الولايات المتحدة في وجه ذلك، بل عطل الساسة اللبنانيون أنفسهم تلك المساعي كافة، بفشلهم في انتخاب رئيس منذ عام 2020 أو القيام بالإجراءات الاقتصادية التي يصر عليها المجتمع الدولي لتأمين تلك المساعدات. 

هذا يعني غياب خريطة طريق واضحة لإعادة الإعمار. ماذا عن النازحين؟ قد يؤدي عدم قدرتهم على سداد إيجارات البيوت المؤقتة أو توفير نفقات العيش إلى تفشي التوتر بينهم وبين مضيفيهم، وهو ما لم نشهده خلال 2006. مزيج مرعب من القتل والتهجير يتبعه فقر ومزيد من العنف.

تاريخ لبنان يظهر أيضاً قدرة غير عادية على رفع الأنقاض والعودة الى الحياة، حتى وإن كان النهوض مؤقتا الى حين وقوع الأزمة التالية

بيد أن تاريخ لبنان يظهر أيضاً قدرة غير عادية على رفع الأنقاض والعودة الى الحياة، حتى وإن كان النهوض مؤقتا الى حين وقوع الأزمة التالية. 

للمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي كتاب قصير بعنوان "عن أمل لا شفاء منه" يسجل فيه يومياته خلال الغزو الإسرائيلي عام 1982 واجتياج بيروت. أصبح عنوان الكتاب على مدار السنين جملتي المفضلة لوصف ما أشعر به حيال لبنان. إنه شيء لا يمكن للغة الأرقام أن تفسره! 

font change