برتقال كنفاني لا يزال حزينا

برتقال كنفاني لا يزال حزينا

"أرض البرتقال الحزين" عنوانٌ قصصي طبقتْ شهرته الآفاق لقامة الأدب الفلسطيني السامقة غسان كنفاني، ويتمثّل العنوان قصص المجموعة الثانية (1962) من أصل خمس مجموعات قصصية موشومة: "موت سرير رقم12" المنشورة سنة 1961-"عالم ليس لنا" 1965 -"عن الرجال والبنادق" 1968- "القميص المسروق" 1982.

"أرض البرتقال الحزين" هو العنوان نفسه الذي يحمل ثقل مأسوية القصة القصيرة السادسة في سلم ترتيب المجموعة ذاتها، واللافت مع القراءة الأولى تردّد أو تكرار حضور مفردتي البرتقال/ البرتقالة 14 مرّة، إذ يتوهج البرتقال شجنا في العنوان أولا، ويخبو أواره في مختتم القصة القصيرة مع آخر عبارة رمادية.

تستهل القصة وقائع حكايتها السوداوية بمغادرة أسرة الطفل الفلسطيني لمدينة يافا على سبيل الإكراه إلى مدينة عكا، ومن عكا على سبيل التهجير الصهيوني إلى صيدا اللبنانية عبر رأس الناقورة، وعلى طول فراسخ الطريق حتى مدخل رأس الناقورة الغائمة في الأفق الأزرق، تتخلف وراءهم حقول البرتقال. تشرع النسوة في التقاط البرتقال من سلة فلاح يجلس القرفصاء فيما يجهشن بالبكاء، كذا فعل والد الطفل إذ طوقت يده ملء الكف برتقالة ولم يستطع منع انهياره بكاء هو الآخر، ليدرك الطفل أن البرتقال شيء حبيب وفق تعبيره.

 وأما الصمت الطاعن في الحسرة فكان يجلّل وجه الأم ونظرتها لا تفارق برتقالتها المحمولة ملء كفها 

وبينما تمعن أرض البرتقال في النأي مع دخولهم أرض لبنان، التمعت أشجار البرتقال في عيني الوالد بحسب تخييل الطفل، شجرة تلو أخرى أزهرت في وجهه أمام ضابط المخفر على الحدود. أما الصمت الطاعن في الحسرة فكان يجلّل وجه الأم ونظرتها لا تفارق برتقالتها المحمولة ملء كفها هي الأخرى، ويكون لأثر المشهد اندلاع نارٍ بروميثيّة في رأس الطفل دائما: "والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النّار".

في مدينة صيدا وقد أمست الأسرة لاجئة، وأمام استفحال العطالة ألحت الأم في الجهر بلازمة العودة إلى أرض البرتقال في الغياب المزمن للعمل.

بعيدا من أرض طفولته يتذكّر الطفل ما قصّه عليهم فلاح خبير بأن البرتقال ذابل لا محالة إذا ما تغيرت اليد التي كانت تتعهده بالماء.

ومن صيدا ملاذهم كلاجئين إلى قرية في الضاحية، يسطو رماد اليأس أمام التباس بصيص الأمل في العودة نكسة تلو أخرى، جرفت الوالد إلى حالات من السعار والغضب، بعدما خف حديثه عن فلسطين وماضيه السعيد في حقول البرتقال المتروك قسرا لمغتصبيه من الإسرائيليين، في الوقت الذي أمسى أولاده وأسرته جدران مأساة تسمق من فرط شح العمل وانعدام موارد تدبير اقتصاد البيت، الى درجة زاغت به أعنف الحالات هذه إلى الكشف عن صندوقه الحميم المحمول من عكا بحثا عن مسدس أسود أراد به قتل أولاده ونفسه لولا التدخل الحكيم من الأم، وهي الحالة المأسوية التي تؤول به في مختتم القصة القصيرة بنكوصه الذبيح في الفراش مريضا كنمر حزين اقتُلعت مخالبه وأنيابه، وعلى الطاولة في محاذاته ينتصب المسدس الأسود إياه وإلى جواره برتقالة لكن جافة، وقد اعتراها اليباس.

يتفرّد البرتقال في الثقافات المتوسطية بلونه المبهج، بغبطته المتألقة، بشحنة الفرح التي تشعّ منه، حدّ أنّ ما يسمى بحدائق الهسبريديس التي تعني التفاح الذهبي في الأسطورة الإغريقية إنما المقصود بها البرتقال وليس التفاح الذهبي، بحسب عالم النبات، الكاتب الإيطالي جيوفاني باتيستا فيراري، وقد عدّ مؤرخو الأساطير البرتقال ثمرة فينوس الأثيرة، كما تخيلها الكاتب جيوفاني أندريا ألشياتو في لوحة من كتاب "الشعارات"، ويضع فيها فينوس إلى جوار شجرة برتقال احتكاما إلى مقولة الحب كمحض تجربة تتأرجح بين الحلو والمر. هذه الرمزية المتأرجحة بين المرارة والحلاوة ستنحو منحى تراجيديا عندما يوظفها المخرج السينمائي فورد كوبولا في فيلمه الشهير "العراب"، إذ يحضر البرتقال الصقلي في منعطفات دموية تنذر بالخطر والرعب والقتل، بينما تضيء البرتقالة كابنة شقية للشمس أو الذهب في لوحات تشكيلية منعزلة لبول غوغان وهنري ماتيس، وبالمثل تتحول إلى ملحمة أرض تشتعل برتقالا في ذاكرة لوحات الفلسطيني سليمان منصور.

حزين هو البرتقال في قصة كنفاني لأن أرضه انسلخت عن أصحابها وآلت إلى مغتصبها المحتل

حزين هو البرتقال في قصة كنفاني لأن أرضه انسلخت عن أصحابها وآلت إلى مغتصبها المحتل وفق وعي الطفل الشقي، لأنّ ابتهاج البرتقال انطفأ ما أن غادرته يد المزارع التي تسقيه من روحه قبل أن تعمّده بالماء. وبالاستناد إلى هذه الحقيقة المأسوية، أمسى البرتقال وفق تدرجه في وقائع القصة شيئا مقدسا يطابق علامة أو رمزًا يحيل بقوّة على الأرض المغتصبة أو الحنين اللاعج إليها؛ أرض سيظل برتقالها حزينا إلى حين عودة أصحابه اللاجئين من جحيم الشتات، بل هو ذابلٌ لا محالة في استطالة غياب مزارعيه الأوائل الأحقاق وأبنائهم وحفدتهم عبر فراسخ البعد الجارف، ومع ذلك شمس عودتهم موصولة بشمس برتقالهم المضيء.

هكذا يتشبث اللاجئ الفلسطيني بحسب رمزية القصة ببرتقال أرضه النائية، ويلازم حضور عرّاب الحمضيات هذا انتصاب السلاح كما تومئ به علامة المسدس الأسود كخيار المقاوم اللّابد منه، حتى لو اقتضى الحال أن ينتحر به بطوليا أمام استفحال ظلام المهانة.

تظلّ ازدواجية البرتقال واشتعال النار في رأس الطفل لامعة، دامغة، وغائرة الأثر، فالبرتقال يذكي حدة النار كمعادلة صاخبة أو جدلية مصاحبة، كحتمية للاجئ المقاوم، مقاومة النسيان الفادح بيقظة الذاكرة الصلدة، مقاومة الاستلام للانهيار في جليد المنافي بالنفخ في الجذوة المتوارية في مشعل حلم العودة الأبدي.

font change