حرب غزة بعيون مصوّرين فوتوغرافيين: الصورة الذكية تصنع التغييرhttps://www.majalla.com/node/322418/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B5%D9%88%D9%91%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1
غزة: مع اقتراب حرب غزة من إكمال عامها الأول، تراكمت مشاهد القتل والتهجير، وازدادت صور معاناة الفلسطينيين في الخيام، وأمام عربات المياه المتنقلة، ومشاهد أخرى للموت على مدار اللحظة، بجثث مختلطة بالأنقاض، أو دماء وأشلاء تلتقطها العدسات.
في هذا الواقع المستحيل، يحمل المصور الفلسطيني على عاتقه توثيق قصة شعبه، ونقل روايته مع الألم والنزوح والموت. تلك المهمة الشاقة والخطيرة، يخوض المصور غمارها بهدف توثيق يوميات الحرب، ونقل وقائع الإبادة للعالم.
تلاحظ الفنانة والمصورة فداء الحسنات تحوّل المجتمع العالمي إلى الحيّز البصري في طريقة اكتساب المعرفة، وقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى مساحة تحقق هذا الهدف. الحسنات التي تهتم بالتقاط صور يوميات الناس، وهوامش الأحداث، كتعبير عن زاوية أخرى من الحرب، تقول لـ "المجلة": "بإمكان الجمهور الهرب من نشرات الأخبار والتقارير الصحفية، لكن من الصعب الهروب من مشاهدة الصورة على مواقع التواصل، التي تشبه إلى حد كبير المقال السريع، كوسيلة لنقل الحقيقة".
تتحدث الصورة عن اللحظة وماضيها ومستقبلها، فصورة طفل حاف في مخيمات النزوح، تخبر عن ماضٍ أقل بشاعة لطفل يذهب لمدرسته، وتنذر بمستقبل سيء
فداء الحسنات
فيما يؤكد المصور محمد نتيل دور الصورة خلال الحرب، في اختصار سنوات طويلة من النضال الفلسطيني من أجل الحياة. يهتم النتيل بجوانب مختلفة خلال عمله، ما بين تصوير القصص الإنسانية وجثث القتلى وركام المنازل، كما يهتم بالصور الإنسانية المعبرة، التي تحاكي الآخرين. يروي لنا: "أدى انتشار الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تغيير نظرة أجيال جديدة في العالم حول فلسطين، وهو ما نحاول تحقيقه منذ عقود في خضم نضالنا من أجل التحرير".
أما أحمد الدنف، المهتم بالقصص الإنسانية خلال الحرب، وصور الحياة قبلها، فيقول لنا: "للصورة خصوصية لدى الفلسطينيين في نقل روايتهم للعالم، وتلعب دورا هاما في تسليط الضوء على واقع الحياة الصعب وعشوائية النزوح القاتل الذي تفرضه إسرائيل على أهل القطاع".
جوانب خفيّة
سألنا المصوّرين عن دور الصورة في الحرب. تقول فداء الحسنات: "دور الصورة، نقل الجوانب الخفية لحياة الناس، والمشاهد القاسية لحياة الأبرياء، بما يحاكي الوعي العالمي".
وتعزز الحسنات أهمية نقل الصورة الذكية للجمهور العالمي وتعرّفها بأنها "الصورة التي تتجنب نقل مشاهد الدم التي يكره الإنسان رؤيتها... ليس مستغربا أن تضع مواقع التواصل الاجتماعي قيودا حول مشاهدة تلك الصور، لذا أبحث عن صورة تحاكي الوعي العالمي دون أن تؤذي مشاعره".
لكن محمد نتيل يمنح الصورة دورا أشمل، فمُهمتها لديه، البحث عن الحياة في أي وقت: "لوقت طويل، تمت شيطنة الإنسان الفلسطيني أمام العالم، واستهدفت هويته، حتى أصبح مدانا، لكن الصورة، حتى قبل حرب الإبادة، أسّست لمشاركة الحياة مع الآخرين حول العالم... خلال هذه الحرب انتشرت الصورة الفلسطينية لدى الشعوب، وحشد الجمهور المتضامن مع الأبرياء المعرّضين للإبادة".
وتفنّد الحسنات هدف الصورة بالقول: "دوما تتحدث الصورة عن اللحظة وماضيها ومستقبلها، فصورة طفل حاف في مخيمات النزوح، تخبر عن ماضٍ أقل بشاعة لطفل يذهب لمدرسته، وتنذر بمستقبل سيء ينتظر جيل من الأطفال الحفاة، إن لم تتوقف الحرب".
هناك صفات تكتسبها الصورة النابعة من آلام الناس وعذاباتهم، تجعل منها غير عادية. تتحدث الحسنات حول ذلك: "لا يمكن تمييز صورة الحرب عن الصورة العادية سوى بتجسيدها للوجع والحزن الشديد، فحين يتفاعل شخص من الجمهور مع صورة الحرب أكثر، فذلك يعود للتقاطع بين أحزانه وأحزان الآخرين، وهو نمط آخر من أنماط المعرفة لديه".
أما الدنف فيرى خصوصية صورة الحرب، نابعة من كونها "انعكاسا لهول الفظائع التي نمر بها، حيث تغير شكل الحياة بالنسبة إليّ، بعدما كنت قبل الحرب أوثق المناسبات والأفراح ووجه غزة الجميل".
ويتفق المصور نتيل مع زميليه، بأن صورة الحرب ضرورة من نوع خاص: "الحدث في الحرب لا يمكن تكراره نفسها ، فهو حدث نادر، ونحن بعدساتنا في الميدان، شهود عليه، نرى بأعيننا، ووظيفتنا توثيق الجرائم الإسرائيلية، وفضح الجناة.. لذلك تبقى الصورة في الحرب وثيقة لإثبات الحق، فلا يتوجب إهمالها أو إغماض العين عنها".
المشاعر والمهنية
ويواجه المصورون الفلسطينيون خلال الحرب صراعا بين المهنية والمشاعر الشخصية، فأيهما يتغلب؟
تؤكد الحسنات أنها ليست غريبة عن اللقطة التي تنقلها، بل تعيشها وتتأثر بها، فــ"الألم الناجم عن الحرب يتكرر كل لحظة، وهذه الحرب حملت إفراطا في القسوة صنعه الاحتلال الإسرائيلي، وكلما زادت قسوة الصورة، زادت رغبتي في كشف إجرام صانعي الحرب".
أدّى انتشار الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تغيير نظرة أجيال جديدة في العالم حول فلسطين
محمد نتيل
أما نتيل فيكشف عن مواقف عديدة خلال عمله، فهو لم يتمالك نفسه في مواقف عدة، وانهار باكيا أمام دماء الضحايا وأشلائهم، أو فعل ذلك فيما بعد. يقول: "من المستحيل أن أنقل المجازر بحق أبناء شعبي دون أن أتأثر، فأنا لست ضيفا هنا، وأنقل كيف يتعرض شعبي للإبادة بحزن شديد، على الرغم من حاجتي إلى التماسك أمام ما تراه عيناي من آلام الأبرياء".
يقول الدنف: "الضحايا من المدنيين ليسوا أرقاما، وهذا يدفعني إلى البحث عن قصص هؤلاء، لفضح فداحة آلة القتل، وكذلك نقل المشاعر والمعاناة كما يعيشها أصحابها".
لكن هناك لحظات تجبر المصور على للتوقف عن التصوير، فما الذي يحدث؟
تجيب الحسنات: "حينما يتعلق الأمر بانتهاك خصوصية المرء، يتوقف المصور، ويتفرغ كأي إنسان لمواساة صاحب الحدث، الأمر يتعلق بحُرْمة المشاعر الخاصة بالإنسان، وهذا يعود لطبيعة الشخص نفسه، لكننا كثيرا ما نواجه أشخاصا يطالبوننا بتصوير مشاهد مأساتهم ونقلها للناس".
ويؤكد نتيل على حرمة الخصوصية، معترفا بأنه يتجنب التقاط العديد من المشاهد خلال تغطيته الأحداث. فيخبرنا: "أجد نفسي أمام تحدٍ أخلاقي في ذلك، فمثلا أتجنب تصوير جثة شهيد بين الركام، على الرغم من أهمية نقل ذلك، كما أفضل عدم نقل لحظات انهيار الأشخاص أمام اكتشافهم مقتل أحبائهم".
أما الدنف فيعلّق: "أحيانا أضطر لوضع الكاميرا جانبا وتجنب مشاهد مؤلمة. فليس من المناسب نشر الخصوصيات على مواقع التواصل الاجتماعي، كالحالات التي يصل بها المصابون بحالات بتر، أو إصابات بالغة في الوجه. كلّ مشهد لا أقوى على مشاهدته، لا ألتقطه بعدستي".
وتعتبر الحسنات أن توجهات المصور هي التي تٌحدّد لحظة التقاط الصورة وقيمتها لديه: "المصور الذي يستهدف ضحايا القصف ينطلق لمكان الحدث، أو يقف عند بوابة المشفى، أما مصور الناجين، فيذهب بين الخيام والتكيات، ليلتقط ما لا يسرده مذيع الأخبار وهي الآثار العميقة التي تخلفها الحرب".
في حين يرى محمد نتيل أن "كل لحظة خلال حرب الإبادة تستحق التوثيق والنقل للعالم، فكما أنا المؤرخ مهمته حفظ التاريخ، فلابد من وجود صورة توثق ما حدث، والفارق بينهما أن الصورة مهما مر الزمن، لا يمكن تزويرها، أو تعديل مكوناتها، فهي تنطق بما يجب أن يُرى من تفاصيل الحروب".
ويخبرنا الدنف: "جملة الصور التي نشرتها منذ بداية الحرب، أتت في سياق إنساني، يتفاعل معها رواد مواقع التواصل الاجتماعي وينشرونها. لقد خلقت هذه القصص انطباعات إيجابية بين الجمهور، وحشدت نقاشات مهمة حول فلسطين".
وصول الصورة
خلال الحرب، وصلت الصورة الفلسطينية بزخم كبير للجمهور حول العالم، إذ اعتبر المصورون والناشطون الفلسطينيون ذلك منبرا لتغيير الصورة السائدة لدى بعض شعوب العالم.
ترى فداء الحسنات أن التفاعل على مواقع التواصل يزداد حال تلقت الصورة معارضة من طرف ما، تتحدث: "تعليقات الإسرائيليين أو مؤيديهم على الصورة تجعل منها أكثر مشاهدة، بسبب ازدياد التعليقات المؤيدة لرواية الفلسطينيين، والتي تنبري للرد على التعليقات الإسرائيلية".
تمكنّا عدة مرات من كسر السردية الإسرائيلية التي سعت إلى إظهارنا في بداية الحرب بوصفنا وحوشا بشرية لا تستحق الحياة
أحمد الدنف
فيما يعتبر نتيل أن طلاب الجامعات والأكاديميين والفنانين في الغرب، هم الفئة الأكثر تفاعلا مع الصورة الفلسطينية، وقد ساهموا جديا في نقل تجربة الإبادة والتهجير... منذ وقت ليس بالبعيد بدأنا التواصل مع تلك الفئة، من أجل نقل رغبتنا بالحياة للعالم، لكن خلال حرب الإبادة، كانت الصورة، صوتنا الداخلي، نبضنا، صراخ نتمنى أن يسمعه العالم ويستجيب لإغاثتنا".
أما أحمد الدنف فيقول: "لطالما انحازت مواقع التواصل الاجتماعي للاحتلال، رغم ذلك تمكنا من إيصال رسالتنا عبرها، خاصة أن قضيتنا إنسانية بالدرجة الأولى، إذ تمكنا عدة مرات من كسر السردية الإسرائيلية التي سعت إلى إظهارنا في بداية الحرب بوصفنا وحوشا بشرية لا تستحق الحياة".
يواجه المصور الفلسطيني الخطر الشديد خلال عمله، لا سيما وأنه تحول هدفا من قبل الجيش الإسرائيلي، ومع الوقت ازدادت التحديات التي يواجهها المصورون.
تقول الحسنات: "مواجهة الخطر أمر لا يمكن تجنّبه خلال حرب الإبادة، والمسؤولية الشخصية تقع على عاتق المصور، في ظل تعطل قوانين حماية الصحفي والمصور من قبل الاحتلال، وصمت العالم".
تضيف: "اقتراب الحرب من عامها الأول يزيد من تحدّيات المصورين، فما يتلف من معدات يصعب تعويضه في ظل استمرار حصار الاحتلال للقطاع، كما أن انقطاع الكهرباء والإنترنت يعيق عمل المصور، ويحجم قدرته على نقل الحدث في غزة".
أما نتيل فيصنف العمل الصحفي بغزة، بأنه من الأخطر خلال الحرب، خاصة وأن الصحفي جُرّد من حصانته أمام أعين العالم. يقول: "هي مهمة شاقة ومرعبة أن تعمل وأنت مستهدف، تلاحقك الطائرات والصواريخ والمدافع خلال عملك".
يتابع: "أتممت مهمة تصويرية في الحرب، سقطت خلالها شظية على بعد أمتار من مني، فعين الجندي الإسرائيلي، جردتني من مساحة الأمان التي تقرها لي قوانين الحرب".
وحول التحديات التي تواجهه يقول أحمد الدنف، يقول: "التحدي الأكبر هو ترك عائلتي خلفي في ظروف خطيرة منذ عام، لم ألتقهم إلا مرات قليلة وللحظات خاطفة".
يكمل: "في الميدان، أتعرض للموت -كما قتل العشرات وأصيب المئات من زملائي- فلا قيمة عند إسرائيل للدرع والخوذة، ولا حصانة لأي صحفي في غزة".
يضيف: "فنيا، فقدت معظم معداتي بداية الحرب حين كنت أعمل شمال قطاع غزة، وفي مجمّع الشفاء الطبي، لم أتمكن من النجاة سوى بكاميرا وحيدة، أعتمد عليها في التغطية".