حسن نصر الله… العيش والموت بالخطابة والغضب والأوهام

لبنان حسن نصر الله... أفقٌ حجري وسماءُ حجرية

روبرت كارتر/المجلة
روبرت كارتر/المجلة

حسن نصر الله… العيش والموت بالخطابة والغضب والأوهام

كيف يمكن تخيّل "حزب الله" بدون حسن نصر الله؟

بل كيف يمكن تخيّل "حزب الله" ومجتمعه الذي بناه بالجهد والعرق والدم، وكان لحسن نصر الله الدور الأبرز في بنائه بالخطابة والغضب والأوهام طوال 40 سنة في لبنان؟ بل كيف يمكن تخيّل لبنان كله بدون حسن نصر الله؟

لبنان الذي أدمن العيش في طحن الأوهام والدم والركام طوال 75 سنة، وغرق اليوم في طوفانها الأقصى في المشرق العربي كله. وها يحدث هذا فيما الدولة العسكرية الإسبارطية والنووية الوحيدة في الشرق الأوسط، تمرّن جبروتها التدميري، الدموي والإبادي، في غزة ولبنان، ويقف رئيس حكومتها على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويلقي خطاب جبروته الحربي على مسامع العالم كله. وقد يكون هذا غير مسبوق في تاريج المنظمة الدولية!

وكان حسن نصر الله قد قال مرة وكرّر مرات إن تلك الدولة "أوهن من بيت العنكبوت". وهذا بعدما سمع كثيرًا وصدّق إمامه يقول من طهران إنها "غدة سرطانية"، يجب محوها من الوجود.

وهو الوجود الذي شرعت الدولة الإسبارطية المسلح جيشها بأحدث أسلحة العالم كله اليوم، بمحو غزة منه وإبادة أهلها. وها هي تمحو منذ أسبوعين ما سمّاه حسن نصر الله "توازن الرعب" الأسطوري بينها وبين حزبه في لبنان.

وكأنما ذاك "التوازن" الذي استمرت الرطانة به سنين طويلة، هو الأوهى من بيت عنكبوت. وكأنه لم يكن سوى "صرح من خيال فهوى"، تاركًا خلفه بلادًا من الردم والدم والركام والحرائق. بلاد انطمر حسن نصر الله تحت واحدة من ركامها الدموي في ضاحية بيروت الجنوبية.

كيف يمكن تفسير هذه السعادة بالموت الذي وحده يجلب الانتصارات، التي لم تتكشف أخيرًا سوى عن هذا الذي نشهده ونعيشه هنا والآن؟

انتصارات من؟

وماذا يمكن القول، وبماذا يمكن التفكير في هذه الأوقات؟

أنكرِّر ما قاله مرة الشاعر اللبناني الراحل محمد العبدلله في خضم الحروب الأهلية بلبنان: "للتكرار نؤلف حتى تعجز خليقة الله"؟

وفي غياب حسن نصر الله، صوته، صورته، أوهامه - بل قبل غيابه - غرق هو وحزبه ومجتمعه ولبنان معهم في التيه.

التيه إياه الذي كان غرق فيه لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات صيف 1982.

ومن خليط ذاك التيه والدم والركام، ولد "حزب الله" ومجتمعه وزعيمه حسن نصر الله الذي بالكاد كان تجاوز آنذاك العشرين من عمره. وكان نشأ فتىً في "حركة أمل المحرومين" التي سماها الإمام موسى الصدر اللبناني - الإيراني، بعدما أسسها مطلع السبعينات اللبنانية، من ركام اجتماع المحرومين الشيعة ونخبهم في بيروت وضواحيها والبقاع والجنوب.

وكانت تلك "الحركة" - بعد تغييب إمامها المؤسس سنة 1978 - قد بدأت تتشظى، فانشق عنها نصر الله مع جماعة منها وسواهم من جماعات أخرى متأثرة بثورة الإمام الخميني الإسلامية الإيرانية، فأسسوا في النصف الأول من الثمانينات نواة "المقاومة الإسلامية في لبنان" ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

أ.ف.ب
امرأة إيرانية تحمل صورة تجمع نصر الله وقاسم سليماني وخامنئي في تظاهرة بساحة فلسطين بالعاصمة الإيرانية طهران

وهي "مقاومة" نشأت خلاياها الخمينية سرية، ودرّب بعضها "الحرس الثوري الإيراني" في سهل البقاع، قبل أن يجمعها "الحرس" إياه ويؤلف منها "حزب الله" الذي استمر عمله وتنظيمه سريًا، حتى بعد إذاعته بيانه الأول، التأسيسي "للمستضعفين في الأرض"، من مسجد صغير في الغبيري بضاحية بيروت الجنوبية، سنة 1985.

وفيما كانت "حركة أمل" الشيعية تُصاب بالإرهاق والتفكُّك وتتكبد ألوفًا من القتلى، أثناء حربها الدموية على المخيمات الفلسطينية (1985- 1988) - لتطهيرها من ما سمته "أمل" وسماها راعيها وآمرها النظام السوري، "الزمر العرافاتية"، نسبة إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات - كان "حزب الله" يشتد عوده ويتصلّب تنظيمه السري ويتمدد، وينشىء مجتمعًا شيعيًا نقيضًا بمقدرات وموارد إيرانية في "إمرة سيّدين": النظام السوري والنظام الإيراني الخميني، على ما شرح وحلّل وأسهب الباحث اللبناني وضاح شرارة في كتابه المرجعي "دولة حزب الله - لبنان مجتمعًا إسلاميًا".

وبتلك المقدرات والموارد التي كان حسن نصر الله وجيله الخميني يتولون تحويلها قوة عسكرية واجتماعية وسياسية منظمة، انقضوا على "حركة أمل" الفوضوية المنهكة، وشنوا عليها حربًا خاطفة في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية، وكادوا يحطمونها، قبل تركهم لها بعضَ الجيوب في المجتمع الشيعي الذي تكبّد ألوفًا من القتلى أثناء تلك الحرب الخاطفة.

وهي "مقاومة" نشأت خلاياها الخمينية سرية، ودرّب بعضها "الحرس الثوري الإيراني" في سهل البقاع، قبل أن يجمعها "الحرس" إياه ويؤلف منها "حزب الله" الذي استمر عمله وتنظيمه سريًا، حتى بعد إذاعته بيانه الأول، التأسيسي "للمستضعفين في الأرض"، من مسجد صغير في الغبيري بضاحية بيروت الجنوبية، سنة 1985

وكانت تلك الحروب جزءًا من "عشرية لبنان السوداء" وحروبه الأهلية الإقليمية طوال الثمانينات، كعشرية الجزائر السوداء اللاحقة في التسعينات التي استمر "حزب الله" وحده حزبًا مسلحًا في لبنان باسم "مقاومة إسرائيل" المحتلة شريطًا من القرى الحدودية في الجنوب اللبناني، قبل إجلاء جيشها منه سنة 2000.

وهكذا صار "حزب الله" حزب "التحرير والنصر" اللذين توّجهما في لبنان ببناء إسمنتي لمجتمعه الشيعي النقيض.

وهو نقيض لمجتمع الجماعات اللبنانية الأخرى غير المسلحة والمنضوية في إعادة بناء مجتمعاتها العادية و"دولة الطوائف"، بعدما أنهكتها الحروب التي توقفت منذ العام 1990.

وها لبنان الآن و"حزب الله" ومجتمعه الحربي النقيض - وهما صارا، بعد حرب العام 2006، حزبَ ومجتمعَ "الوعد الصادق" و"النصر الإلهي" - يسقطون معًا ودفعة واحدة في هوة سحيقة من الردم والركام والدم مع حسن نصر الله.

والأرجح أن لا قيامة بعد اليوم من هذه الهوة، إلا لشراذم جماعات ضائعة وتائهة في الدماء والردم والركام. لا، ليس لبنان وحده على هذه الحال.

بل هناك نماذج وأمثلة عربية تدخّل "الحرس الثوري الإيراني" وقائده قاسم سليماني في صناعتها، وكان لحسن نصر الله وحزبه دور بارز في صوغها وتسميتها: "وحدة الساحات".

وهي ليست سوى ساحات خليط الردم والردم والركام، في سوريا والعراق وغزة واليمن جماعة "حزب الله" الحوثي.

ويصعب اليوم في غمرة هذه الكوارث كله تخيّل "حزب الله" ومجتمعه ولبنان معهما، بدون حسن نصر الله، صوته، صورته، وغضبه المحموم، إلا ذاهبًا أعمق فأعمق في تلك الهوّة التي لا قعر لها. 

لا، ليس لبنان وحده على هذه الحال...

بل هناك نماذج وأمثلة عربية تدخّل "الحرس الثوري الإيراني" وقائده قاسم سليماني في صناعتها، وكان لحسن نصر الله وحزبه دور بارز في صوغها وتسميتها: "وحدة الساحات". وهي ليست سوى ساحات خليط الردم والردم والركام، في سوريا والعراق وغزة واليمن جماعة "حزب الله" الحوثي

بعض المحللين، المشهود لهم بالحكمة وبالنزاهة الأخلاقية والمعرفة الطويلة، يغلّبون المنطق السياسي العقلاني في مقاربتهم عمل "حزب الله" وحسن نصر الله، لا سيما في حربهما هذه، أي حرب "إسناد" منظمة "حماس" و"مشاغلة" إسرائيل في حرب إبادتها غزة.

أ.ف.ب
نعي لنصر الله في إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية في بيروت

لكن محللين آخرين، مشهودٍ لهم بالصفات إياها المذكورة، يرجّحون "المنطق الخلاصي الأخروي" في سائر أعمال "حزب الله" وحسن نصر الله. وهما صاحبا الجيش السري والقيادة والقرارات السرية في حروبهما كلها.

وهذا إذا كان في "المذهب" الخلاصي الأخروي في خوض الحروب منطقٌ ما يمكن مقايسته أو القياس عليه.

هناك سؤال ملح يرجح الخلاصية والأخروية في عمل "حزب الله" وحسن نصر الله وحروبهما: لماذا لا يكترثان قط، ولو أدنى اكتراثٍ، بحياة البشر؟

وبالتحديد لا يكثرثان بما يسمى "بيئتهما الحاضنة"، إلا بكون أهلها خزانًا بشريًا صنعه حسن نصر الله وحزبه ليكون كلٌّ منهم جاهزًا لـ"الارتقاء شهيدًا سعيدًا وخالدًا"؟

كيف يمكن تفسير هذه السعادة بالموت الذي وحده يجلب الانتصارات، التي لم تتكشف أخيرًا سوى عن هذا الذي نشهده ونعيشه هنا والآن؟

انتصارات من؟

الأرجح أنها ليست سوى انتصارات الموتى والموت، ليصير الأحياء موتى، ولتصير الأرض يبابًا فيما هم يموتون أثناء موتهم وبعد موتهم.

إنه زواج الحياة والموت زواجًا لا رجعة فيه ومنه، وهو وحده ما يصنع النصر في حياة ليست سوى ظل شبحي للموت والموتى والأرض الخراب.

كيف يمكن الآن أن نتخيّل لبنان الأرض اليباب التي صنعها حسن نصر الله في حياته وفي موته؟

قد لا يمكن تخيّل أي شيء الآن.

وقد "نرغب في الصراخ - كتب اليوم أحمد بيضون – ومن يتوجه إليهم لا أذان لهم. وليس في يدنا شيءٌولن يعطينا أحد شيئًا". 

وقد لا يمكن أن نكرر أيضًا إلا ما افتتح به الشاعر اللبناني الراحل محمد العبدالله ملحمته الشعرية السوداء: "للتكرار يؤلف حتى تعجز خليقة الله".

ثم اختتمها بقوله:

"موت حجري

أفق حجري

وسماء حجرية".

font change

مقالات ذات صلة