وكانت تلك الحروب جزءًا من "عشرية لبنان السوداء" وحروبه الأهلية الإقليمية طوال الثمانينات، كعشرية الجزائر السوداء اللاحقة في التسعينات التي استمر "حزب الله" وحده حزبًا مسلحًا في لبنان باسم "مقاومة إسرائيل" المحتلة شريطًا من القرى الحدودية في الجنوب اللبناني، قبل إجلاء جيشها منه سنة 2000.
وهكذا صار "حزب الله" حزب "التحرير والنصر" اللذين توّجهما في لبنان ببناء إسمنتي لمجتمعه الشيعي النقيض.
وهو نقيض لمجتمع الجماعات اللبنانية الأخرى غير المسلحة والمنضوية في إعادة بناء مجتمعاتها العادية و"دولة الطوائف"، بعدما أنهكتها الحروب التي توقفت منذ العام 1990.
وها لبنان الآن و"حزب الله" ومجتمعه الحربي النقيض - وهما صارا، بعد حرب العام 2006، حزبَ ومجتمعَ "الوعد الصادق" و"النصر الإلهي" - يسقطون معًا ودفعة واحدة في هوة سحيقة من الردم والركام والدم مع حسن نصر الله.
والأرجح أن لا قيامة بعد اليوم من هذه الهوة، إلا لشراذم جماعات ضائعة وتائهة في الدماء والردم والركام. لا، ليس لبنان وحده على هذه الحال.
بل هناك نماذج وأمثلة عربية تدخّل "الحرس الثوري الإيراني" وقائده قاسم سليماني في صناعتها، وكان لحسن نصر الله وحزبه دور بارز في صوغها وتسميتها: "وحدة الساحات".
وهي ليست سوى ساحات خليط الردم والردم والركام، في سوريا والعراق وغزة واليمن جماعة "حزب الله" الحوثي.
ويصعب اليوم في غمرة هذه الكوارث كله تخيّل "حزب الله" ومجتمعه ولبنان معهما، بدون حسن نصر الله، صوته، صورته، وغضبه المحموم، إلا ذاهبًا أعمق فأعمق في تلك الهوّة التي لا قعر لها.
لا، ليس لبنان وحده على هذه الحال...
بل هناك نماذج وأمثلة عربية تدخّل "الحرس الثوري الإيراني" وقائده قاسم سليماني في صناعتها، وكان لحسن نصر الله وحزبه دور بارز في صوغها وتسميتها: "وحدة الساحات". وهي ليست سوى ساحات خليط الردم والردم والركام، في سوريا والعراق وغزة واليمن جماعة "حزب الله" الحوثي
بعض المحللين، المشهود لهم بالحكمة وبالنزاهة الأخلاقية والمعرفة الطويلة، يغلّبون المنطق السياسي العقلاني في مقاربتهم عمل "حزب الله" وحسن نصر الله، لا سيما في حربهما هذه، أي حرب "إسناد" منظمة "حماس" و"مشاغلة" إسرائيل في حرب إبادتها غزة.
نعي لنصر الله في إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية في بيروت
لكن محللين آخرين، مشهودٍ لهم بالصفات إياها المذكورة، يرجّحون "المنطق الخلاصي الأخروي" في سائر أعمال "حزب الله" وحسن نصر الله. وهما صاحبا الجيش السري والقيادة والقرارات السرية في حروبهما كلها.
وهذا إذا كان في "المذهب" الخلاصي الأخروي في خوض الحروب منطقٌ ما يمكن مقايسته أو القياس عليه.
هناك سؤال ملح يرجح الخلاصية والأخروية في عمل "حزب الله" وحسن نصر الله وحروبهما: لماذا لا يكترثان قط، ولو أدنى اكتراثٍ، بحياة البشر؟
وبالتحديد لا يكثرثان بما يسمى "بيئتهما الحاضنة"، إلا بكون أهلها خزانًا بشريًا صنعه حسن نصر الله وحزبه ليكون كلٌّ منهم جاهزًا لـ"الارتقاء شهيدًا سعيدًا وخالدًا"؟
كيف يمكن تفسير هذه السعادة بالموت الذي وحده يجلب الانتصارات، التي لم تتكشف أخيرًا سوى عن هذا الذي نشهده ونعيشه هنا والآن؟
انتصارات من؟
الأرجح أنها ليست سوى انتصارات الموتى والموت، ليصير الأحياء موتى، ولتصير الأرض يبابًا فيما هم يموتون أثناء موتهم وبعد موتهم.
إنه زواج الحياة والموت زواجًا لا رجعة فيه ومنه، وهو وحده ما يصنع النصر في حياة ليست سوى ظل شبحي للموت والموتى والأرض الخراب.
كيف يمكن الآن أن نتخيّل لبنان الأرض اليباب التي صنعها حسن نصر الله في حياته وفي موته؟
قد لا يمكن تخيّل أي شيء الآن.
وقد "نرغب في الصراخ - كتب اليوم أحمد بيضون – ومن يتوجه إليهم لا أذان لهم. وليس في يدنا شيءٌولن يعطينا أحد شيئًا".
وقد لا يمكن أن نكرر أيضًا إلا ما افتتح به الشاعر اللبناني الراحل محمد العبدالله ملحمته الشعرية السوداء: "للتكرار يؤلف حتى تعجز خليقة الله".
ثم اختتمها بقوله:
"موت حجري
أفق حجري
وسماء حجرية".