ماذا بقي للجزائر من أوراق لاحتواء الأزمة في مالي؟

خشية من أن يستغل "داعش" التوترات في الساحل الأفريقي

أ ف ب
أ ف ب
مسلحون في موقع هجوم انتحاري أودى بحياة ثلاثة مدنيين في 12 نوفمبر 2023، في شمال البلاد الذي يشهد أعمال عنف

ماذا بقي للجزائر من أوراق لاحتواء الأزمة في مالي؟

يزداد الوضع الأمني في مالي تعقيدا وتدهورا، بعد أن أضحت البلاد ساحة "معركة مفتوحة" بين الأطراف المتنازعة إذ يحاول كل طرف رسم خريطة جديدة للنفوذ والسيطرة، فكيف ستتصرف الجزائر مع هذه التطورات الأمنية لا سيما وأنها تملك حدودا لاصقة بآلاف الكيلومترات وتشهد يوميا إخفاء ونقل الأسلحة الصغيرة والخفيفة والمخدرات وتسلل العناصر الإرهابية وقطاع الطرق، وهو ما يشكل تحديا كبيرا يتطلب التعامل معه بكل حزم وجدية.

وتلقى المجلس العسكري الحاكم في مالي مؤخرا ضربة قوية بعد أن هاجم مسلحون أكاديمية لتدريب القوات الخاصة ومناطق استراتيجية أخرى، مما أسفر عن مقتل متدربين واقتحام جزء من المكان وإشعال النار في الطائرة الرئاسية. ورغم أن مالي لم تؤكد عدد القتلى، فإن ما تم تداوله عبر الإنترنت يبرز حرق 20 سريرا بطابقين وعدة جثث متفحمة بعضها تحت الأسرة. وقبلها بأيام قليلة تعرضت منطقة "تين زواتين" الواقعة داخل الأراضي المالية- في المكان المعروف بـ"أخربان" وهو عبارة عن تجمع تجاري- تعرض لقصف شديد طال مدنيين وأطفالا، وأسفر عن مقتل 21 بينهم 12 طفلا وكان الأشد فتكا منذ نقض اتفاق السلام بين أطراف الصراع.

أسوأ سيناريو محتمل

وفي نهاية يوليو/تموز الماضي، تكبدت قوات "فاغنر" الروسية، هزيمة مدوية على يد المتمردين شمال مالي قرب الحدود مع الجزائر، ما أسفر عن مقتل وإصابة وربما أسر عدد من عناصرها، ما قد يشكل حصيلة ثقيلة في يوم واحد لقتلاها فضلا عن مقتل عدد آخر من قوات الجيش المالي الذين يأتمرون بأوامر المجلس العسكري الانقلابي.

تمتلك الجزائر خاصية تؤهلها لاحتواء الأزمة وهي إلمامها بتركيبة مجتمع الطوارق أكثر من غيرها وربما حتى أفضل من المسؤولين في باماكو

وتطرح الأزمة الأمنية والسياسية الحادة التي تعيشها باماكو اليوم الكثير من التساؤلات حول طريقة فك الدبلوماسية الجزائرية لشفرة الأزمة في مالي ومنع تحولها إلى ثقب أسود ثانٍ بعد ليبيا، فالوضع الحالي يشجع على احتضان الجماعات الإرهابية والمسلحة المتناحرة وانتشار السلاح والتهريب والاقتتال، ولذلك يرى عبد الرفيق كشوط، أستاذ محاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن "مشكلة الجزائر الأمنية الكبيرة اليوم تكمن في حدودها مع مالي، لا سيما وأن الوضع في هذا البلد الشمال أفريقي بات على حافة أسوأ سيناريو محتمل على الإطلاق بسبب عزم الجيش المالي السيطرة على جميع أراضي البلاد بما فيها تلك التي تسيطر عليها حركة الأزواد".
وما يزيد الوضع تعقيدا في المنطقة الوجود الأجنبي الذي لا يحترم الضوابط الإنسانية ويحفز ظاهرة النزوح وقد تجد الجزائر نفسها في مواجهة السيناريو نفسه الذي عاشته خلال الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2015، إذ شهدت البلاد نزوح 55 ألف مواطن مالي بمعدل هجرة أكثر من 18 ألف شخص سنويا بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في مالي.

الهجمات تزداد عنفا وجرأة

لكن ما الحل اليوم؟ لا سيما وأن العمليات الهجومية الأخيرة كانت أكثر جرأة من الهجمات السابقة فهي تستهدف بشكل مباشر أهدافا عسكرية في باماكو وهو ما يوحي بقدرة المسلحين على استهداف أماكن استراتيجية في مالي والسيطرة عليها. واللافت للانتباه أيضا تمديد خطوط الإمداد أي حدوث الاشتباكات في مناطق تفصلها مئات الأمتار فقط عن الحدود الجزائرية، فكلما كان القتال خارج "غاو" (تقع شمال مالي وتعتبر جزءا من إقليم أزواد)، و"كيدال" (تقع شمال شرقي جمهورية مالي) فإنّ ذلك يشكل تحديا أمنيا كبيرا للجزائر.
يقول الدكتور محمد الطيب حمدان، الباحث الأكاديمي وأستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية، في حديث  إلى "المجلة" إن "ملامح تحديد المشهد المستقبلي في مالي يتوقف على عدة عناصر، منها قراءة المشهد جيدا لا سيما على مستوى التحرك التكتيكي للقوى الدولية من جهة وعلى المستوى الاستراتيجي من جهة أخرى حتى يتسنى فرض حلول سياسية في الأفق القريب".

أ ف ب
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يتحدث إلى الصحافة بعد التصويت للانتخابات الرئاسية في الجزائر العاصمة في 7 سبتمبر 2024

وتمتلك الجزائر خاصية تؤهلها لاحتواء الأزمة، وهي إلمامها بتركيبة مجتمع الطوارق أكثر من غيرها وربما حتى أفضل من المسؤولين في باماكو، لذا فهي تستطيع احتواء الصراعات التي تنشب بين الفرقاء الماليين والحكومة المالية بأريحية إلى حد ما، ويمكن هنا الإشارة إلى اتفاق السلام الذي ترعاه الجزائر منذ 2015 والذي وفر لفترة وجيزة استقرارا ملحوظا لكنه لم يدم طويلا بعد أن أعلن المجلس العسكري في مالي في يناير/كانون الثاني الماضي إنهاء العمل به بعد تغير موقف المجموعات الموقعة عليه.

ما الخيارات المتاحة؟

يبدو أن المهمة هذه المرة لن تكون هينة، ويؤكد الدكتور محمد الطيب حمدان أن "العقبة الكبرى التي تعترض الجزائر أن النخبة العسكرية والسياسية في مالي تريد بشكل أو بآخر تعميق الهوة بينها وبين السلطات العليا في البلاد".
والمطلوب اليوم من الجزائر "السعي مع الشريك الروسي المقرب من السلطات المركزية في مالي من أجل تضييق الفجوة بين أطراف الصراع الرئيسة: الجيش المالي وحركات أزواد، والدفع نحو عملية سياسية جديدة تعيد الاستقرار الداخلي لمالي بشكل عام والإقليم الشمالي المحاذي للحدود الجزائرية بشكل خاص".

تبدي الجزائر دائما استعدادها لتفكيك "القنابل الموقوتة" في شمال مالي لأنها على يقين من أنها لو انفجرت فستكون أول متضرر من شظاياها

ويطرح الباحث الأكاديمي عبد الرفيق كشوط خيارات متعددة لاستعادة المبادرة على الصعيد السياسي وجمع الفرقاء مجددا أهمها التنسيق مع المجموعة الدولية للضغط على المجلس العسكري الذي يتولى قيادة البلاد لاحترام آجال تنظيم الاقتراع الرئاسي الذي كان من المقرر تنظيمه بين يومي 4 و18 فبراير/شباط 2024 إلا أنه تم إرجاؤه لأسباب فنية مرتبطة بإقرار دستور جديد للبلاد ومراجعة اللوائح الانتخابية للمواطنين إضافة إلى خلاف مع شركة فرنسية تشارك في عملية إحصاء السكان.

ومن بين ما هو متاح أيضا وفق كشوط "تشغيل الآلة الدبلوماسية بأقصى طاقة ممكنة للتراجع عن إلغاء الاتفاق أو أن ترعى الجزائر اتفاقا جديدا بين الفرقاء الماليين وفق بنود جديدة وأكثر توافقا، تمنع من خلالها تدخّل الأطراف الخارجية أو البعيدة عن المنطقة من التدخّل".
ويمثل قرار السلطات الانتقالية في مالي بإنهاء العمل باتفاق الجزائر للسلام الموقع عام 2015 "خطيئة استراتيجية" لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف السلطة المركزية فضلا عن وضعها غير الدستوري واستشراء الفساد الذي بات ينخر مفاصل الدولة والمساحة الجغرافية الشاسعة وغياب التغطية الأمنية، دون أن ننسى عامل الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011 وما أعقبه من فتح لمخازن الأسلحة التي كان يرصد لها ميزانيات ضخمة تقدر بحوالي مليار ونصف المليار دولار، ناهيك عن الدعم الذي كانت تتلقاه الميليشيات المتعددة من خارج الأراضي الليبية.

وتبدي الجزائر دائما استعدادها لتفكيك "القنابل الموقوتة" في شمال مالي لأنها على يقين من أنها لو انفجرت فستكون أول متضرر من شظاياها، وأكد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، في مؤتمر صحافي عقده نهاية يوليو الماضي، أن "الجزائر لا يمكنها إطلاقا أن تدير ظهرها لما يجري في الساحل الأفريقي".

أ ب
صورة غير مؤرخة وزعها الجيش الفرنسي تظهر ثلاثة عناصر من "فاغنر" الروسية، على اليمين، في شمال مالي

وعلّق على عودة الحرب في شمال مالي بالقول، إنها جاءت "نتيجة لوقف العمل باتفاق الجزائر"، مضيفا: "تتذكرون فحوى البيان الرسمي الذي أصدرته الجزائر بعد إعلان حكومة مالي الانسحاب من اتفاق السلام، وحذّرنا فيه من مخاطر اندلاع حرب أهلية في هذا البلد الشقيق، وقلنا وفقا لمعطيات ما زالت قائمة إن ليس هناك حل عسكري للأزمة، وأن الحلّ يجب أن يكون سياسيا".

تحذيرات من عودة نشاط "داعش"

وتخشى الجزائر أن يستغل تنظيم "داعش" وحلفاؤه التوترات السياسية والنزاعات القائمة، إذ وصف الممثل الجزائري الدائم لدى الأمم المتحدة بنيويورك عمار بن جامع، في مداخلة ألقاها خلال اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي انعقد في أغسطس/آب الماضي، وصف الوضع بـ "المقلق" لأن الجماعات المنضوية تحت لواء داعش بدأت تتطور في أفريقيا مستغلة حالة التشنج والاحتقان السياسي والاجتماعي في كثير من الدول الأفريقية".

عدم الاستقرار السياسي واحد من أهم العوامل التي ساهمت في تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية

وفي يوليو الماضي، أصدر معهد الاقتصاد والسلام الدولي نسخته العاشرة من مؤشر الإرهاب العالمي، وسلط فيها الضوء على ارتفاع الوفيات الناتجة عن الصراعات بمنطقة الساحل خلال عام 2022، حيث ارتفعت الوفيات من 472 إلى 1159 خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2022، فيما أحصت موزمبيق والصومال أكبر زيادات في عدد الوفيات الناجمة عن الصراعات بمنطقة الساحل خلال عام 2022، بحيث ارتفعت من 472 حالة إلى 1159 خلال هذه الفترة، بينما أحصت موزمبيق والصومال أكبر زيادات في عدد العمليات الإرهابية، واللافت للنظر حسب التقرير أن تنظيم "داعش" كانت له الغلبة في هجماته هذا العام عن "القاعدة"، حيث كانت الوفيات الناجمة عن هجمات هذا التنظيم أكثر مرتين مقارنة بجماعة "النصرة" وبواقع 19 هجوما و243 حالة وفاة، وقد اعتمد في هجماته على استخدام الأسلحة النارية بخلاف تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الذي اعتمد "النهج التخفيفي".

ويرى التقرير أن عدم الاستقرار السياسي واحد من أهم العوامل التي ساهمت في تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية، فإقليم الساحل والصحراء شهد خلال عامي 2020 و2022 حوالي 13 محاولة انقلابية سبع منها كانت ناجحة، وأرجع السبب في ذلك إلى فشل السياسات الحكومية المتعلقة بالحكم وسوء الإدارة والفساد والتسيير وارتفاع معدلات الفقر المدقع، واستدل التقرير بدولة مالي مثلا، إذ أدى انتشار الفساد والمحسوبية إلى تقويض المؤسسات الأمنية وإضعاف أي جهود للتنمية، وحسب مؤشر التنمية البشرية فإن مالي تعاني من مستويات تنمية منخفضة، مما يعكس ضعف الحكم واتساع رقعة نشاط الإرهاب.

font change

مقالات ذات صلة