تشهد ورش الكتابة تزايدا مضطردا في الكثير من مدن العالم، بما في ذلك في العالم العربي، معتمدة في الغالب على مؤلفين معروفين لقيادة مجموعة من الأفراد الراغبين في تطوير قدراتهم ومواهبهم، لا سيما في كتابة الرواية والقصة، وذلك انطلاقا من رؤية تحديثية تستند إلى وعي جمالي وثقافي. لا شك في أن هذه الورش تساعد في تحسين أسلوب كتابة المؤلفين الجدد والطامحين إلى أن يصبحوا أدباء المستقبل، لكن هل تستطيع هذه الورش حقا "تعليم" الكتابة الإبداعية، وهل يمكنها أن تمنح الكتاب الجدد آفاقا أوسع وأن تفضي بهم إلى استكشاف أعمق لذواتهم والوصول إلى لغتهم وأسلوبهم الخاصين، أم أنها تكتفي بتعميم تقنيات وأدوات تسهّل عليهم النجاح في سوق نشر تتزايد فيه المنافسة؟
محاولة فهم العملية الإبداعية، والغوص في معناها ومبناها، ليست بجديدة، ويحفل التراث العربي بأعمال تحاول الإضاءة على ما يجعل نصا ما، شعريا أو نثريا، يمتلك الخواص الكافية ليكون أدبا، وتكفي الإشارة ههنا إلى كتاب الجاحظ، "البيان والتبيين"، وكتاب الدينوري "أدب الكاتب"، وغيرها من أعمال تحاول العثور على صفات دقيقة تشكّل ما اصطلح على تسميته "صنعة الكتابة"، وهي تسمية تشير في حدّ ذاتها إلى أن الكتابة يمكن تعلّمها واحترافها مثل العديد من المهن حين يمتلك المرء الأدوات المعرفية والتقنية الكافية.
الجدير ذكره أنه قبل قرن وأبعد، لم تكن ورش الكتابة منتشرةكما هي الحال اليوم، حيث كان الكاتب الطامح يعتمد على القراءة المكثفة ومراقبة الحياة، والتعمق في الأفكار، وأساليب صياغتها، بالإضافة طبعا إلى التمرين المستمر على الكتابة، مع توفر الموهبة والشغف والإخلاص للعمل، فولد على مرّ الأزمنة كتاب كبار استطاعوا تحبير أعمال أدبية خالدة دون الحاجة إلى من "يعلّمهم" الكتابة بصورة مباشرة، علما أن الكثير من أولئك المبدعين استلهموا من آخرين سبقوهم أو جايلوهم أو حتى تتلمذوا على أيديهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، السبل التي ساعدتهم في تكوين ذواتهم الأدبية. هنا أيضا لا بدّ من ذكر حقيقة أن الكثير من الشعراء العرب الكلاسيكيين تدربوا على أيدي شعراء آخرين قبل أن يشقّوا طريقهم بأنفسهم.
مع الإقرار ببعض الفوائد والفرص التي تتيحها ورش الكتابة، فإن الكتابة الإبداعية تظلّ تنمو وتتطور خارج حدود الأشكال المهنية الأخرى
في العودة إلى ورش تعليم الكتابة الإبداعية، يظلّ التساؤل قائما حول ما إذا كانت تلك الورش، في حدّ ذاتها، تساعد الكتاب الجدد في تطوير أدواتهم الكتابية، السردية والقصصية، وأن تجعل منهم في نهاية المطاف ساردين حقيقيين، لمجرد تعليمهم كيفية استخدام الاستعارات الأدبية، والتركيز على الشخصيات وتنميتها، وقول ما ينعكس في أنفسهم وما في أذهان الناس، مع التعبير الوصفي في السرد التفصيلي... إلى آخر تلك الأدوات. الأهم من ذلك كله، تستطيع هذه الأدوات تعليم المكوّن الأساس في الكتابة الإبداعية وهو الخيال. أم أن المسألة برمتها لا تعدو الوصول إلى إنتاج أعمال متناسبة مع سوق النشر، بمعنى تقديم روايات جيدة ومتماسكة فنيا، وقابلة للبيع التجاري؟
نعيش في عصر يتسم بالسرعة الهائلة في كل شيء، وفي الطليعة التكنولوجيا التي باتت تحكم الكثير من أوجه حياتنا، وهذه التغيرات المتسارعة والتنافسية العالية في كل شيء تقريبا، باتت تفرض التفكير بشكل مختلف، رغبة في إنتاج منتج أدبي قابل للانتشار والنجاح، وهذا ما يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن النجاح في عالم الأدب شبيه بالنجاح في عالم الأعمال مثلا، حيث هناك معادلات وصيغ مجرّبة تضمن تحقيق الأهداف بسرعة وكفاءة. إلا أن الكتابة الإبداعية (ومثلها الفنون بأنواعها) تبقى من الكفاءات النادرة، فليس كل من يكتب أو "ينتج" أعمالا روائية أو قصصية يخلق بالضرورة قيمة، وإن نجح العمل في سوق النشر.
إذن، هل تخلق الورش كاتبا مبدعا، أم كاتبا جيدا فحسب؟
في كل زمان ومكان، يُعدّ الأدب الحقيقي ملحمة عصره، فهو سفر شيّق يهب خصوبته للمتلقي، فالأفكار والكلمات في الأدب، وبأسرارها الخبيئة، تحكمها الشساعة في طرح القضايا الإبداعية والجمالية والتخييلية، ومن الصعب شرح الكتابة الإبداعية بشكل منفصل، وتعليم الطريقة التي تنبض بها القصة بالحياة في عيون القارئ، فكل هذا يحتاج إلى عيون مبدعة وقلب يخفق وعقل مستنير يستوعب الحياة ويشعر بالإنسان، وإلى قلم يكتب بوعي وبغير وعي، لتتمكن كل جملة من أن تحفر شيئا في قلب القارئ.
إذن، ومع الإقرار ببعض الفوائد والفرص التي تتيحها ورش الكتابة، فإن الكتابة الإبداعية تظلّ تنمو وتتطور خارج حدود الأشكال المهنية الأخرى المرتبطة بالكتابة، مثل مهنة الصحافة أو الأبحاث أو غيرها من المهن الأكاديمية.