الإنسان هو الكائن الحي الوحيد المسؤول، وإن بعض المسؤولية، عن الكائنات الحية في حضورها أو فنائها فضلا عن مسؤولياته البديهية تجاه أرضه وتجاه نفسه وأهله ومجتمعه. أي أنه مسؤول عن الحياة على هذا الكوكب العظيم "الفريد" (حسب ما نعرف حتى الآن) بين الكواكب.
هكذا، كما نتعلّم مبادئ السلوك القويم تجاه الإنسان الآخر، ينبغي أن نتبع السلوك العقلي القويم العارف تجاه الطبيعة وتجاه مخلوقات الأرض جميعها، حتى أصغر هذه المخلوقات، ونتعلّم منها. من أجل ذلك، أحببت، كلما سنحت الفرصة، أن أراقب حركة الكائنات الحية، حتى الصغيرة، وأستمد منها العبر.
ذات يوم كنت أجلس في حديقة المبنى، حيث نقيم، فشهدت حدثا لم أتخيله أبدا: رأيت حركة للنمل حيث تناثر بعض من فتات الخبز. ورأيت نملة تفقد الحركة وتموت. ثم رأيت نملة ثانية تحملها مسافة غير طويلة، لكنها تقارب نصف متر، تحفر في التراب قليلا وتدفنها ثم تردم الحفرة.
كنت شهدت حوادث موت جماعي للنمل لم تسمح بمثل هذا الإجراء. كان ذلك حدثا أدهشني وأثر في رؤيتي لعالمنا تأثيرا هائلا: ما هذا العقل الصامت السري الخفي بل السحري الذي ينظم الكون ومبادئ الحياة حتى لدى أصغر كائناته، ويقيم بينها الأواصر وحوافز التآلف والتعاون، حتى مع غياب اللغة أو مظاهر التعبير؟ أو ما هذه اللغات السرية الخاصة بكل نوع، والتي تؤالف بين الكائنات! وكم من الأسرار في الكون تجري أمام أعيننا ولا نفك ألغازها! أو لم نتوصل بعد إلى فكها! ولماذا كلما تقدمنا في المعرفة (أعني نحن البشر العاديين غير الاختصاصيين) أهملنا التعلم من الطبيعة وكائناتها؟ وهذا ما حول تساؤلاتي نحو الإنسان:
هل كلما تعاظمت قدراته، العقلية، بخاصة، تنوعت مظاهر اختلافاته ومصادر خلافاته وأسبابها؟ وفي هذه الوضعية ما تصبح وظيفة العقل الإنساني العظيم بل الأعظم بين عقول الكائنات الحية؟ وما دور لغاته السرية القادرة أن تحلل وتترجم الخلافات والاختلافات وتوجد لها مراجع وجذورا وحلولا؟
أين العقل الإنساني العظيم الذي ابتدع الأجهزة لرؤية ما لا يرى وبلوغ الكواكب وكشف الأسرار؟
كيف لا نتأمل في العبر التي تقدمها الحروب، وفي مسار التحالفات الدولية وحتى الاتحادات في تناقض مجرياتها وتتابعها؟ وكيف نفسر اليوم لقاء فرنسا وألمانيا، مثلا، في الاتحاد الأوروبي بعد ملايين القتلى في حربين عالميتين ضاريتين؟ وكيف تغفر لتاريخها الدول التي تحاربت تلك المجازر المريعة؟
وأين العقل الإنساني العظيم الذي ابتدع الأجهزة لرؤية ما لا يرى وبلوغ الكواكب وكشف الأسرار؟
كيف، مع المعرفة المتعاظمة للطبيعة لم تستضئ الإنسانية بحكمتها وأسرارها؟ كيف تبقى الحروب وأسلحتها، بدل العقل الإنساني وإبداعاته، درعا للدول وضامنا لسلامها؟ كيف لم تتقدم لغة السياسة وعلومها وتحليلاتها بحيث توجد بديلا يلغي الحروب؟ كيف لا تصبح عافية الإنسانية وحوار الشعوب وتعاونها الهدف الأول للجماعات والمؤسسات الدولية، سياسية كانت أو فكرية وعلمية؟
هذا علما أن أفظع الحروب قامت في العصر الحديث بين أرقى الشعوب، (أرقى في مجال التقنية والعلوم والفلسفة على الأقل). وها هي تقوم أو تتهيأ بين شعوب عريقة تمتاز بتاريخ حافل بالآلام والعبر والتحولات والتجارب، وبالمنجزات الفكرية والمعرفية أيضا.
والأسئلة، بل الاستنكارات التي تحضر تفوق الحصر خصوصا إذا استعرضنا السياسة العالمية حاليا، ولا سيما في الشرق الأوسط.