ثمة خصيصة جوهرية في ديوان الشاعر المصري عبد الوهاب الشيخ، "اسمها في الغيب زُليخا" (أروقة للدراسات والنشر)، تقتضي التنويه، عدا موضوع الحب الطاغي في الديوان. هذه الخصيصة تتصل بأدوات الشاعر، لغة وأسلوبا ومعالجة، فقد مرت على هذا الموضوع الراسخ والشائع، والمنشود على الدوام، أصابع ما لا يُحصى من الكتاب والشعراء، فكان يلزم لإفلاته من شباك المعاد والمكرور، أدوات على درجة من الجدة والنضارة، وقبل كل ذلك يلزمه الشغف النضِر لمقاربته، وهو ما توفّر عليه الشاعر.
أقول مقاربة، مجازا، ففي كلمة المقاربة إيحاء بمسافة بين الكاتب وموضوعه، فيما يلزم خطاب العشق لكي يكون مؤثرا وكافّا عن أن يكون مجرد كلمات بالحبر الأسود على صفحة بيضاء بين يدي القارئ والشاعر على حد سواء، اندغاما كاملا بين الشاعر وموضوعه، مثلما لحظة الحب ما هي سوى ذلك الاندغام. وهو ما شفّ عنه الشاعر تمثلّا وتمثيلا، حتى ما عاد التفريق ممكنا بين البلاغة كأداة ومعطى شعري متحقق في ذاته، وبين أنفاس المعشوقة التي يمكن أن يستشعرها القارئ حدّ تحريك الورقة بين يديه، كموضوع أو هدف يُسعَى إليه بأداة البلاغة ـ من بين أدوات أُخرى ـ متضافرة، تُبلور عمل الشاعر في المحصلة. مما يعني تحقق لحظة التمثّل التي يطلبها الشاعر، وتتطلبها شروط القصيدة أو الفن، عموما. وهي معادلة ليس باليسير تحقيق شروط الإلمام بها أو نجاحها. إن في تداعيات السطور الآنفة أو هذه القراءة، إجمالا، افتراضا مفاده أن الديوان في مجمله، وبأقسامه الثمانية وتفرعاتها، حقق أكبر قدر من الوفاء للشرط الشعري. وإذا كانت ثيمة الحب هي الغالبة حدّ شغل القارئ عمّا عداها من ثيمات، فإنّ من العسف عدم الإشارة إلى بقية هذه الثيمات، على قلتها، وإيلائها النظر والتملّي، لنكتشف البعد الوجودي والفلسفي للشاعر في فهم العالم والتعاطي معه، ليتكامل ذلك مع البعد الجمالي لقصيدته:
ما عاد التفريق ممكنا بين البلاغة كأداة ومعطى شعري متحقق في ذاته، وبين أنفاس المعشوقة التي يمكن أن يستشعرها القارئ
إنّ ما تجدر الإشارة إليه هو أن المقطعين أعلاه مأخوذان من قصائد القسمين الأول والثاني من الديوان والمعنونَين على التوالي، "لا عليك"، و"ظلال دارسة"، وضم القسم الأول ست قصائد، نأت بكاملها عن موضوع الديوان الرئيس، أما القصائد الأُخرى التي نحت المنحى ذاته، فتضمنها القسم الثاني، وكان انشغال معظم قصائده بمفردات ووحدات تتصل بالوجود الإنساني وتنتمي إلى قاموس الحياة الأعمّ، كالأمل واليأس والحزن والسعادة. وعلى رحابة ما تناولته القصائد وما اتصفت به من حذق على مستوى اللغة ونشدان المعنى وما أفضت إليه في مراميها، إلا أنها بدت خارج توقيت الديوان، أو بمثابة الهامش، لناحية الحجم، قياسا إلى ما شغله الهاجس الأساس له، وإن جاءت في المفتتح، وهي تؤكد انفتاح الشاعر على السوية الموضوعية، أي تعدد عوالم القصيدة لديه، دون اقتصارها على موضوع وحيد واحد، مهما كانت أهميته:
"غريب أنت
كيف لا ترى
مفتاح سعادتك يلمع
بين كومة من الساعات
واللعب المحطمة
كيف لا تمد يدك وتمسكه
وبقبضتك القوية تديره
في فتحة الباب
ـ أيّ باب ـ
وتلج داخلا".
زليخا الوجه والقناع
لا يمكن تجاهل البعد الديني الذي يتخذه اسم زليخا، عادة، لاقترانه بالنبي يوسف، رغم الإشكالية الدائرة حول صحة الاسم، وإذا كان رائجا في الكثير من المرويات، إلا أنه لم يرد أي ذكر له سواء في التوراة أو القرآن، ففي سفر التكوين وهو السفر الأول من العهد القديم ترد الإشارة إلى المعنية في واقعة محاولة الإغواء المعروفة، في الإصحاح التاسع والثلاثين ويُكنى عنها بـ"امرأة سيّدِه"، والسيد المعني هنا فوطيفار، وزير فرعون. وفي القرآن، كما في السورة التي تحمل اسم يوسف تُدعى بـ"امرأة العزيز" والتسمية ترد في آيتين. غير أن الشاعر لم يكن معنيا بجدال الاسم، بقدر اهتمامه بما يتيحه له من استثمار لرمزيته، وما قرّ في الذاكرة الجمعية من إحالات إليه، تشعّ بما هو عشقي وحسّي. وإذا كان الاسم سافرا في مداليله هذه، فإنه هو ذاته قناع لاسم محجوب، غير مسلّم بصحته، وقد اتخذ منه الشاعر بدوره حجابا وقناعا لمعشوقته، أيا كانت، حقيقةً، أم خَلقا فنيا محضا، إذ ليس من أهمية لذلك، إزاء تحقق واقعيته الشعرية التي تمكن فيها الشاعر من التجسيد الحي لشخصية المعشوقة ومعها، وبالقدر نفسه، شخصية العاشق، مستنفرا كلّ ما يعزّز صدقية مشاهد الحب في قصيدته، تخييلا ولغة، بتدبرات أسلوبية مختلفة مستنفدا الضمائر الثلاثة المعروفة في اللغة، و قد أدت هذه التقنية دورها، وفقا لمتطلبات النص وتشكله فأنجزت أثرها، بفعل ولَهٍ متقد، محتشد، ليختلط الحُلُمي بالواقعي، والحسي بالصوفي.
وإذا كان طيف ليلى يحضر لدى بعض الصوفية، كابن عربي وسواه، رمزا وإشارة إلى التفاني في الحب "والانشغال به عن متعلِّقه"، بعبارة ابن عربي، فإن عبد الوهاب الشيخ يجعل من ليلاه وهي هنا زليخا، الحبَّ ذاته، مع فارق المثال في الحالتين، ناشدا إياه، أي الحب، بالحواس والرغبة في أكثر الأحيان، وبما يتصل بما هو روحي، حينا، ليتبين أن زليخا ليست قناعا واحدا فحسب بل أكثر من قناع للمعشوقة، فهي أيضا حواء، كما في المتخيّل الجمعي، وتكشف القصيدة التي حمل اسمَها الديوان، وفي القسم المعنون بالاسم ذاته، عن المزج بين زليخا وحواء، بما يفيد الإغواء: "تحمل سلتها/ وتدور/ توزع الحب/ والعطر/ في كل درب من أثرها/ عبق خافت/ في كل طريق/ من سلتها/ فاكهة مبعثرة".
يتبين أن زليخا ليست قناعا واحدا فحسب بل أكثر من قناع للمعشوقة، فهي أيضا حواء كما في المتخيّل الجمعي
وكذلك هي ليلى بما تعنيه من رمزية روحية في أنطولوجيا الحب. ورغم طغيان الجسدي، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور عناصر صوفية انفتحت عليها مشهديات العشق في الكثير من القصائد، سواء باستيحاء الجو الصوفي، أو الصدور عن مفاهيم ومصطلحات صوفية، بما يؤشر إلى خلفية الشاعر في هذا الفضاء، فحتى المقتبس من نجيب محفوظ الذي تصدّر الديوان كان ذا نفَس صوفي: "ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين"، وبه يضيء الشاعر مجمل عمله، كأنه يمهد به لما سيكون عليه الديوان من مناخ. مثلما كان هناك استحضار للمفردة القرآنية في غير موضع ومقام من الديوان، وفي مقام آخر لا يتوانى الشاعر عن خلع صفات القداسة، على معشوقته، في أكثر من قصيدة، فهو يشبّه نحولها بـ"قديسين يصومون على الماء" كما في قصيدة "الرقة الخافية" أو لا يستبعد إمكان سيرها على الماء، حين يدعوها، في قصيدة أخرى:
"أرسلي ثغرك دليلا
في متاهة نزقي
ارفعي حجاب الرقة
وانصبي راية للحنين
أشهري اللهفة كتابا
والشهقة حجابا
علقي خطوك
على صفحة الماء
واعبري يا مسيحيَ
الصغير
صوب قلبي" (من قصيدة "حجاب الرقة").
جدلية التنوع
هذا التنوّع حدّ التضارب، انسحب أيضا على الشكل البصَري للقصيدة، فثمة الشكل المتعارف عليه في قصيدة النثر أو القصيدة الحرة، بالأصح، باعتماد الجمَل القصيرة العمودية وكان هو الغالب في الديوان، إلى جانب الشكل السطري الأفقي الكامل، وهو ما كانت عليه أغلب قصائد القسم الأخير من الكتاب والموسوم بـ"اسمها في الغيب زُليخا". ويبدو أن لهذا الشكل صلة عضوية بطبيعة الخطاب ذاته، وقد تكون قصيدتا "في طريقها إلى قلبي" و"كل ما يخصّك دائر" الأكثر تمثيلا لذلك، بما في ذلك عنوان هذه الأخيرة، الذي يعكس وعي الشاعر بكتابته، ويمكن وصف القصائد هنا بالدائرية، لناحية بنائها، مما حتّم تلاحق السطور فيها واتصالها، فلا استخدام لعلامة الوقف التام في نهاية الجملة، إلا نادرا. ودائريتها تأتي تساوقا وتكيّفا مع ما استهدفته، أي الأنثى، كخصيصة من خصائصها، طبيعة وتكوينا، فدورتها القمرية، بتعبير أحد الشعراء، وقد يكون ريلكه، واحدة من هذه الخصائص بل هي في صميمها:
هذا السرد لم يأت على حساب النزعة الشعرية، بل بقي محافظا على الكثافة الشعرية للجملة وللنص عموما
"... تعبرين من ظل لظل، ومن نور لنور، باسمة مُنادِمة وقد أسكرك شجوك، فرحت تغردين حالمة بربيع لن يأتي إلا في خيال روحك العاشقة المسكونة بخطاك صوب الظل والنور، والنور والظل، في دورة أبدية لا تنفكّ تنتهي إلا لتبدأ من جديد، متعاقب فيها اللذة والألم، والحزن والسرور، والفرح الطائر بجناحين من شهقة روحك لذة وألما، وألما ولذة، في دورة أُخرى مناظرة لدورة الظل والنور. كلّ ما يخصك دائر داثر، من رأسك إلى قدمك، من جسدك إلى روحك، من شهقتك إلى شهقتك".
وإذا كان احتدام القول أو المعنى أو كلاهما، تطلبا مثل هذا البناء وأمليا الشكل الدائري للقصيدة، فإن التوزيع الأفقي للجملة الشعرية متأت، أيضا، من نزوع بعض القصائد إلى السرد، مثال ذلك قصيدة "ذات عشق" أو قصيدة "من عشقها". إلا أنّ هذا السرد لم يأت على حساب النزعة الشعرية، بل بقي محافظا على الكثافة الشعرية للجملة وللنص عموما، وهو يأتي في سياق اللعبة الشعرية التي حكمت الديوان في مجمله، والتي اتخذت أكثر من شكل ومنحى ومعالجة، بما في ذلك الانزياحات اللغوية، كما في في كثير من الشواهد وما يعنيه ذلك من تحقيق مساحة تخيليّة ليس لإعمال الذهن فقط وإنما حتى للحواس، وهو ما يكون عادة من صميم مهامّ القصيدة.