منذ اندلاع الحرب في السودان، تعددت المبادرات والجهود الدولية للتدخل لإيقاف القتال. في عالم اليوم، لا يمكن اعتبار مثل هذه التدخلات شرا محضا أو خيرا مطلقا. لكن ينبغي التعامل معها بعقلية نقدية تهدف إلى ضمان توجيهها في ما يخدم شعب السودان ويساهم في تحقيق تطلعاته وتمنع تحولها لمطية لتحقيق أجندات أو مصالح خارجية.
ويكمن التحدي الحقيقي في مثل هذه الظروف في إيجاد التوازن بين احترام مبدأ السيادة الوطنية وبذل الجهود العالمية المشتركة لحماية القيم والمبادئ الإنسانية وتطبيق القانون الدولي. قبل ذلك، تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية حيث يقع الالتزام القانوني على الدول لحماية مواطنيها من الأذى الجماعي ولكن في حالة عجزها عن ذلك، فإن الأمر يتطلب تدخلا دوليا.
التدخل الدولي المتزايد في الحرب السودانية له ما يبرره. فالكارثة الإنسانية التي ترتبت على الحرب بلغت حدا غير مسبوق. وأصبح السودان أكبر كارثة تشريد جماعي. وتجاوز عدد المشردين داخليا وخارجيا 12 مليونا. واللجوء قضية ذات حساسية بالغة مع صعود اليمين الشعبوي في دول الغرب الذي يستخدم ورقة التخويف من اللاجئين والمهاجرين كلافتة سياسية. كما بدأت نذر المجاعة في البروز بشكل مخيف ووصل عدد المحتاجين للمساعدات قرابة 25 مليون شخص. كل هذه مؤشرات لكارثة لها انعكاساتها التي يعجز السودان وحده عن التصدي لها.
وتظهر قضية حماية المدنيين من الانتهاكات الفظيعة للحرب كعلامة بارزة. حيث شهدت الحرب السودانية منذ اندلاعها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وثقتها تقارير حقوقية مستقلة ولجان الأمم المتحدة، بالإضافة إلى جرائم التجويع المتعمد والتهجير القسري وتعطيل وتدمير البنية التحتية للخدمات، ولعل أبشع جريمة ظهرت بكثافة في هذه الحرب، هي جرائم العنف الجنسي ضد النساء والاغتصابات والعبودية الجنسية التي تم توثيقها في الكثير من المناطق.
ولكنّ أي تدخل دولي لحماية المدنيين ينبغي أن يكون واضحا في تحديد الإجابة على سؤال حماية المدنيين ممن؟ فأغلب هذه الانتهاكات تم توثيق ارتكابها بواسطة "قوات الدعم السريع". ولكن دوائر في المجتمع الدولي لا تزال تصر على رفع راية حياد يساوي بين طرفي الحرب في السودان، وهو ما يوفر غطاء وحصانة مؤسسية للميليشيا للاستمرار في ارتكاب الجرائم وتقديم سرديات مجافية للواقع لإنكارها وصرف النظر عنها بتبني شعارات رفع المعاناة عن المدنيين بينما هي سبب أساسي فيها. يخلق هذا بدوره استقطابا غير مجد مع الطرف الثاني (قوات الجيش السوداني)، ويعطل تصميم تدخلات واقعية فعالة لحماية المدنيين. مثل هذا التدخل لحماية المدنيين ينبغي أن يتم نزع التسييس عنه، وأن يضع المدنيين وحمايتهم نصب عينه كهدف وحيد. وهو الأمر الذي يحتاج إلى الإجابة على سؤال من الذي يعرض هؤلاء المدنيين للخطر على أرض الواقع في المقام الأول. كما أن قضية وجود مرتزقة أجانب يحاربون في صفوف الميليشيا، يزيد من البعد الدولي المتعلق بها.
السودان أكبر من أن ينهار، فمساحته الشاسعة وحدوده الممتدة مع سبع دول بالإضافة إلى الشواطئ الطويلة على البحر الأحمر، يجعل لانهيار الدولة في السودان عواقب وخيمة على المنطقة والعالم
لم يكن السودان بمنأى عن التدخلات الدولية قبل اندلاع الحرب. وهي الجهود التي وصفها بايتون كنوف نائب المبعوث الأميركي السابق إلى السودان بالقول: "فشلت الجهود الدبلوماسية، حسنة النوايا ولكن غير المفيدة، بما فيها تلك الجهود الأميركية، في منع اندلاع الحرب على أحسن الفروض، إن لم تكن- في أسوئها- ساهمت بشكل مباشر في اندلاعها".
تحقيق الديمقراطية والحكم المدني في السودان، هو شأن سوداني خالص، ولكن منع انهيار الدولة في السودان هو أمر يهم أطرافا كثيرة. فالسودان أكبر من أن ينهار، حيث إن مساحته الشاسعة وحدوده الممتدة مع سبع دول بالإضافة إلى الشواطئ الطويلة على البحر الأحمر، يجعل لانهيار الدولة في السودان عواقب وخيمة على المنطقة والعالم. كما أن المخاوف من تنامي الجماعات الإرهابية والميليشيات المتطرفة في شرق أفريقيا تخلق مصلحة دولية مشتركة لحسم الحرب السودانية بأسرع وقت ممكن. من ناحية أخرى فإن الدول التي راهنت بالانحياز للميليشيا ودعمت حربها لتحقيق مصالحها في السودان ربما أدركت الآن أن لا نهاية عسكرية ممكنة لهذه الحرب، وأن تكلفة الحرب وتأثيراتها على المدى الطويل ربما تكون أكثر كلفة من أي شيء آخر.