"الاستدامة في القطاع الثقافي" السعودي: رؤية جديدة للمستقبلhttps://www.majalla.com/node/322372/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84
يشهد القطاع الثقافي في السعودية تحولات ملحوظة نحو الاستدامة والتجديد، وهو ما تجلى في التقرير الأخير الذي أصدرته وزارة الثقافة تحت عنوان "الاستدامة في القطاع الثقافي" وتناول تطورات المشهد الثقافي في المملكة والتحديات التي تواجهه. ويعد هذا التقرير خطوة مهمة في تعزيز الثقافة كجزء أساس من "رؤية 2030" التي تعكس التزام المملكة تنمية ثقافتها وتعزيز تنوعها الإبداعي.
هذه التطورات ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل تعكس التزاما حقيقيا لتحقيق نهضة ثقافية شاملة، حيث باتت المنتجات الثقافية تؤدي دورا فعالا في تعزيز الهوية الوطنية وتقوية الروابط بين مختلف فئات المجتمع.
من بين الإنجازات الملحوظة في هذا التقرير، نرى إشارة مبشرة إلى زيادة في عدد زوار المتاحف بلغت 18.5٪، وهذا الارتفاع يشير إلى الفرص الكبيرة المتاحة للنمو في القطاع الثقافي، مما يعزز مكانة الثقافة كأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
بيئة ملائمة
كما يتناول التقرير الجهود الحكومية في دعم البنية التحتية الثقافية وتحسين الوصول إلى الفنون، مما يعكس طموح القائمين على الثقافة الى توفير بيئة ملائمة لتعزيز الثقافة والفنون في جميع أنحاء البلاد.
يتناول التقرير الجهود الحكومية في دعم البنية التحتية الثقافية وتحسين الوصول إلى الفنون
من الجدير ذكره أن مساهمة القطاع الثقافي في الاقتصاد السعودي شهدت نموا تجاوز 20%، مما يبين قدرة هذا القطاع على التعافي من آثار جائحة كوفيد19، فقد بلغت مساهمة الثقافة نحو 35 مليار ريال، أي ما يعادل 1.49% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، مقتربا من مستويات ما قبل الجائحة.
وعلى الرغم من النجاحات، فإن التقرير يشير أيضا إلى وجود تحديات تتطلب عناية مستمرة، إذ تراجعت معدلات النشر الأدبي للمؤلفين السعوديين، وهو ما يمثل حاجة ملحة لدعم الأدباء والفنانين. أما النشر الخارجي فقد شهد اتجاها إيجابيا، مما يشير إلى إمكان استفادة الأدب السعودي من السوق الدولية، ويمكن في هذا الجانب تطويع "مبادرة ترجم" لتسويق الناتج الأدبي السعودي.
وفي سياق الإنتاج العلمي، يسجل التقرير أعلى مستوى للنشر في المجالات الثقافية منذ أربع سنوات، حيث نُشرت 405 أبحاث في مجلات علمية محكمة، 82% منها تعود لباحثين في مؤسسات سعودية، مما يؤكد أن التعليم والبحث العلمي هما ركيزتان أساسيتان للنمو الثقافي المستدام.
كما تسلط النسخة الخامسة من التقرير الضوء على مفهوم الاستدامة الشامل، الذي يتطلب تحقيق التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
حماية التراث الثقافي
ومن بين التحديات البيئية الملحة، حماية التراث الثقافي والطبيعي في ظل التغيرات والتحديات المناخية، فالتهديدات التي تطرأ على المواقع التراثية تستدعي جهدا جماعيا لحماية هذه القيمة الثقافية. وقد تضمنت المبادرات الجديدة التركيز على كيفية حماية هذا التراث من خلال استراتيجيات مستدامة تضمن عدم تدهور المواقع التاريخية والفنية، إضافة إلى ربط الثقافة بالبيئة من خلال استخدام المواد المعاد تدويرها في الفن، لعكس الوعي البيئي المتزايد، وهذا الربط يعزز الفهم الجماعي للبيئة ويزيد جهود الحماية ومضاعفة أدوارها وتنويع مبادراتها، كما يمكن للفنانين والمبدعين أن يكونوا جزءا من الحل من خلال تقديم أعمال تتناول قضايا البيئة، مما يساهم في رفع الوعي المجتمعي حول أهمية حماية الطبيعة.
يسجل التقرير أعلى مستوى للنشر في المجالات الثقافية منذ أربع سنوات، حيث نُشرت 405 أبحاث في مجلات علمية محكمة
إن دور الثقافة في تحقيق الاستدامة أمر بالغ الأهمية، كونها لم تعد مجرد فنون أو تقاليد، بل غدت جزءا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، تماما كما أظهر التقرير، مؤكدا بذلك أن تعزيز الثقافة يمكنه الإسهام في رفع الاقتصاد من خلال دعم الصناعات الثقافية والإبداعية. فمع تزايد الوعي الثقافي، يتزايد الطلب على الفنون والفعاليات والمهرجانات، مما ينعكس إيجابا على الاقتصاد المحلي. وقد ركز التقرير في هذا الجانب أيضا على أهمية المشاركة الثقافية في تعزيز الانخراط المجتمعي لإسهامها الكبير في خلق مجتمع متماسك، وربط بعضه ببعض وتداول ثقافته المتجددة عبر الفعاليات المجانية والمبادرات المجتمعية، وتحقيق التنوع والشمولية، وكسر الحواجز التقليدية في الوصول إلى الثقافة، إضافة إلى توسيع دائرة المشاركة للجميع، وخاصة الفئات البعيدة عن مناطق المهرجانات والفعاليات الثقافية، لمنحهم فرصا للتعبير عن أنفسهم، وإبراز قدراتهم الإبداعية.
التكنولوجيا والشباب
في عصر التكنولوجيا، يشهد القطاع الثقافي تحولا رقميا غير مسبوق، إذ يشير التقرير إلى تزايد استخدام التقنيات الرقمية في الإنتاج الفني، مما يتيح للفنانين الوصول إلى جمهور أوسع، فمنصات عرض الأعمال الفنية عبر الإنترنت تجعل الفنون متاحة للجميع، مما يعزز فرص الابتكار والتجريب في مجالات جديدة.
ويؤكد التقرير أهمية الاستثمار في المواهب الشابة من خلال البرامج التعليمية والتدريبية التي تسعى وزارة الثقافة بموجبها إلى تطوير مهارات الأجيال الجديدة، مما يساهم في خلق أجيال جديدة من الفنانين والمبدعين. هذه البرامج ستساهم وبكل تأكيد في تحقيق الاستدامة المرجوّة.
تُعتبر الثقافة أداة قوية للتواصل بين الشعوب، وقد سلّط التقرير الضوء على أهمية الفعاليات الثقافية التي تجمع بين مختلف الثقافات، مما يسهم في تعزيز الفهم المتبادل وزيادة السلام الاجتماعي، وإبراز التنوع المعرفي، واتساع الحوار في ما بينها. كما ركز التقرير في أحد فصوله على الاقتصاد الإبداعي كعامل أساس في تحقيق التنمية المستدامة. ويمكن تعزيز النمو الاقتصادي في هذا المجال من خلال دعم الصناعات الثقافية مثل السينما والموسيقى والأدب، وتوفير فرص العمل في هذه المجالات الحيوية.
وفي جانب الصحة النفسية والعاطفية، أبرز التقرير عددا من الأبحاث التي تثبت تأثير الفنون في تحسين جودة الحياة، وهو ما يمكن أن يدمج في استراتيجيات الرعاية الصحية، فتقديم الفنون في المراكز الصحية يمكن أن يشارك في دعم التعافي والشعور بالراحة.
ويؤكد التقرير أهمية الحفاظ على الفنون الشعبية والتراث الثقافي الحي كجزء من الهوية المجتمعية الدالة على الحياة الثقافية بالتوثيق والدعم للممارسات الثقافية التقليدية الذي بدوره سيساعد في الحفاظ عليها، بل وينمّيها ويجعلها منشطا اجتماعيا مستمرا، مما يزيد تعزيز الشعور بالانتماء والفخر.
وإذ تُعتبر الثقافة وسيلة فعالة للتغيير الاجتماعي، فإن التقرير يبرز أهمية الفنون في معالجة القضايا الاجتماعية، مثل حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، موضحا أن أهمية المشاريع الثقافية التي تتناول هذه القضايا تساهم في رفع الوعي وتغيير المفاهيم السائدة.
يشير التقرير إلى تزايد استخدام التقنيات الرقمية في الإنتاج الفني، مما يتيح للفنانين الوصول إلى جمهور أوسع
كما يمثّل التعليم الثقافي أداة مهمة في بناء مجتمع واعٍ ومتعلم. ويشير التقرير في هذه الجزئية إلى أهمية دمج المناهج الثقافية في التعليم العام، مما يقوي الوعي الثقافي لدى الشباب، فالمعرفة حول الفنون والتاريخ تساعد في تشكيل انتماء قوي، كما أنها تنمي الحس الفني لدى الأجيال المقبلة.
القطاعان العام والخاص
ويشير التقرير إلى زيادة الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى التعاون مع المؤسسات الثقافية العالمية، فمن شأن ذلك أن يرفع النمو في القطاع الثقافي، ويمكن الشراكات من أن تساهم في تبادل الخبرات، مما يساعد في تطوير المشاريع الثقافية.
ويعتبر هذا التقرير بمثابة خريطة طريق للمستقبل، إذ يوضح الخطوات اللازمة لتعزيز القطاع الثقافي واستدامته في المملكة، عبر التفاعل الإيجابي بين الثقافة والتنمية الاقتصادية مما يُظهر أن الفنون لم يعد دورها ترفيها بل أنها تساهم في تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة، من خلال دعم الثقافة وتحسين جودتها لتواصل تأثيرها على المواطنين، ووصولها الى القطاعات المجتمعية مافة.
لا يشكّل تقرير الحالة الثقافية لعام 2023 وثيقة رصد فحسب، بل هو دعوة للتفكير في كيفية تعزيز الاستدامة الثقافية في المملكة. ومن خلال التركيز على الإنجازات والمبادرات الجديدة، يُظهر التقرير أن الثقافة هي أداة للتغيير والنمو، وأن التزام وزارة الثقافة وهيئاتها "رؤية 2030" سيفتح الأبواب أمام مستقبل مزدهر تلعب فيه الثقافة دورا محوريا في النهضة السعودية.
أخيرا، يوثق التقرير الجهود الكبيرة المبذولة في سبيل بناء ثقافة متينة ومزدهرة في المملكة، ليبين أن بلوغ الاستدامة في القطاع الثقافي يتطلب تحقيق الاندماج الكامل بين الفن والتعليم والبيئة والمجتمع للوصول إلى هوية ثقافية سعودية متطورة.