مع تصاعد الأحداث في السودان منذ أكثر من سنة، وفي ظل أجواء يسودها التوتر قد يبدو البحث في تاريخ هذا البلد العريق وأدبه محاولة لفهم بعض مما يحدث الآن إلا أن نتائج القراءة، خاصة في مجال الأدب، تثير فينا الحسرة على تاريخ مليء بالإبداع والجمال والدهشة صار اليوم مشتتا أو ممزقا بين سلطات وميليشيات لا تمثل، في معظمها، تطلعات الشعب السوداني.
يأتي كتاب "التي تَشغَل بالَ النجوم – أنطولوجيا قصيدة النثر في السودان" الذي صدر أخيرا عن "دار الريس" في الشارقة من إعداد الشاعر أنس مصطفى ليعيد إلينا صورة السودان الشاعرة بعيدا عن الأزمات المتلاحقة. فمن خلال مقدمة الكتاب، نتعرف الى أهم مفاصل تاريخ الشعر السوداني، ابتداء من فترة ما يسمى بـ"عهد السلطنة الزرقاء" (1504-1821) وصولا إلى قصيدة النثر المعاصرة.
قديم وحديث
ما يلفت في تجربة الشعر السوداني هو تشابهها مع العديد من التجارب العربية الأخرى من حيث الصراع بين القديم والحديث، بل إن جوانب من التجربة السودانية سبقت تجارب عربية ذائعة الصيت. الكتاب يضيء بعض هذه التحولات وأهمها تجربة الشاعر الأمين علي مدني في عشرينات القرن العشرين الذي أصدر ما يشبه البيان في كتابه "أعراس ومآتم" (1927) موضحا فيه مفهومه للقصيدة الحرّة: "أنا شاعرٌ أطير بأجنحتي الأثيرية في الفضاء، محلقا في سماء الحرية، مترنما بأناشيد الوقت، منصرفة أذني عن أغنية الماضي وعن ألحان المستقبل، فأنا شاعر الساعة. أنا شاعر بلا قيد أو شرط، لا أعرف الوزن ولا أجيد القافية، ولا أستطيع أن أحرق عواطفي بخورا أمام عظمة الأمراء وأبهة الأغنياء وتيه الوجهاء، أنا شاعر مجنون". وفي السنة نفسها نشر حمزة الملك طمبل دعوته إلى "شعر يقوم على الصدق والبساطة ووحدة الموضوع" وإلى "أدب سوداني بشلوخه ووشمه بدلا من أن يكون أصداء ضئيلة للأدب العربي القديم"، والشلوخ هي جروح تُرسم على خدود الفتيات السودانيات كعلامة على النضج.