أنطولوجيا جديدة لقصيدة النثر في السودان: ريادة وتتنوّع

أولى التجارب الحداثية تعود إلى مائة عام

AFP
AFP
أطفال المدارس في بداية العام الدراسي الجديد في ولاية البحر الأحمر السودانية، في مدرسة الوحدة غربي مدينة بورتسودان، شمال شرق السودان في 16 سبتمبر 2024

أنطولوجيا جديدة لقصيدة النثر في السودان: ريادة وتتنوّع

مع تصاعد الأحداث في السودان منذ أكثر من سنة، وفي ظل أجواء يسودها التوتر قد يبدو البحث في تاريخ هذا البلد العريق وأدبه محاولة لفهم بعض مما يحدث الآن إلا أن نتائج القراءة، خاصة في مجال الأدب، تثير فينا الحسرة على تاريخ مليء بالإبداع والجمال والدهشة صار اليوم مشتتا أو ممزقا بين سلطات وميليشيات لا تمثل، في معظمها، تطلعات الشعب السوداني.

يأتي كتاب "التي تَشغَل بالَ النجوم – أنطولوجيا قصيدة النثر في السودان" الذي صدر أخيرا عن "دار الريس" في الشارقة من إعداد الشاعر أنس مصطفى ليعيد إلينا صورة السودان الشاعرة بعيدا عن الأزمات المتلاحقة. فمن خلال مقدمة الكتاب، نتعرف الى أهم مفاصل تاريخ الشعر السوداني، ابتداء من فترة ما يسمى بـ"عهد السلطنة الزرقاء" (1504-1821) وصولا إلى قصيدة النثر المعاصرة.

قديم وحديث

ما يلفت في تجربة الشعر السوداني هو تشابهها مع العديد من التجارب العربية الأخرى من حيث الصراع بين القديم والحديث، بل إن جوانب من التجربة السودانية سبقت تجارب عربية ذائعة الصيت. الكتاب يضيء بعض هذه التحولات وأهمها تجربة الشاعر الأمين علي مدني في عشرينات القرن العشرين الذي أصدر ما يشبه البيان في كتابه "أعراس ومآتم" (1927) موضحا فيه مفهومه للقصيدة الحرّة: "أنا شاعرٌ أطير بأجنحتي الأثيرية في الفضاء، محلقا في سماء الحرية، مترنما بأناشيد الوقت، منصرفة أذني عن أغنية الماضي وعن ألحان المستقبل، فأنا شاعر الساعة. أنا شاعر بلا قيد أو شرط، لا أعرف الوزن ولا أجيد القافية، ولا أستطيع أن أحرق عواطفي بخورا أمام عظمة الأمراء وأبهة الأغنياء وتيه الوجهاء، أنا شاعر مجنون". وفي السنة نفسها نشر حمزة الملك طمبل دعوته إلى "شعر يقوم على الصدق والبساطة ووحدة الموضوع" وإلى "أدب سوداني بشلوخه ووشمه بدلا من أن يكون أصداء ضئيلة للأدب العربي القديم"، والشلوخ هي جروح تُرسم على خدود الفتيات السودانيات كعلامة على النضج.

تتشابه تجربة الشعر السوداني مع العديد من التجارب العربية الأخرى من حيث الصراع بين القديم والحديث

يشير أنس مصطفى إلى تجربة الشاعر عبد الله الطيب المبكرة في كتابة قصيدة التفعيلة عام 1946، ويقول بعد إيراده أحد مقاطع الطيب الشعرية إن هذه التجربة "سابقة للتجارب التفعيلية لنازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب". وهذا يشبه ما يُقال في العديد من الدول العربية التي شهدت تجارب ريادية متواضعة في هذا الشكل الشعري، مثل الريادة المنسوبة الى اليمني علي أحمد باكثير من خلال مسرحيته الشعرية "إخناتون ونفرتيتي" (1938)، أو تجارب أخرى في مصر ولبنان وسوريا والأردن.

يشير المعدّ إلى تجارب شعرية سودانية متميزة في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة سنذكر منها ما عُرف في الوسط الأدبي العربي منذ القرن الماضي حتى اليوم مثل تجارب التجاني يوسف بشير ومحمد المجذوب وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن ومحيي الدين فارس ومحمد المكي إبراهيم ومصطفى سند ومحمد عبد الحي وعالم عباس وكمال الجزولي وروضة الحاج ومحمد عبد الباري. ويقول إن أوّل ديوان شعر نثري سوداني مطبوع صدر عام 1975 للشاعر التجاني سعيد بعنوان "قصائد برمائية". ويلاحظ أن الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي شهدت "اتساع كتابة قصيدة النثر وبروزها كتيّار ناهض يخرج من خفوت الهامش الشعري إلى متن الكتابة، كتابة بأجنحة تحرّرت من رهق الأيديولوجي واحتفت بالجمالي وبفردية الشاعر".

الشاعر أنس مصطفى

وأشار إلى بعض الأسماء التي برزت خلال هذه الفترة مثل أيوب مصطفى وعبد اللطيف علي الفكي ورقية وراق وإشراقة مصطفى ونصار الحاج ويوسف الحبوب ومحمد جميل أحمد والصادق الرضي وعفيف إسماعيل وعثمان البشري وهاشم ميرغني. ولم تكن قصيدة النثر الثمانينية في السودان كما لاحظ معد الأنطولوجيا "مغربة في معانيها أو معجمها، كما أن مجازاتها اشتغلت بتؤدة على أنظمة الدلالة". واعتبر أن مرحلة التسعينات والألفية الثالثة هي مرحلة قصيدة النثر "حيث كُتبت جلّ نصوص هذه الحقبة شعرا نثريا" وبدت أكثر مغامرة من حيث المفردة الشعرية والمجاز والثيمات، ودلل على هذا المنحى بنصوص لعاطف خيري ورندا محجوب.

مشهديات

حوى الكتاب نصوصا لثلاثة وسبعين شاعرا وشاعرة، رأى مُعدّ الكتاب أنها "تعكس مشاهد مختلفة من نسيج قصيدة النثر السودانية".

نختار هنا بعض المقاطع الشعرية لنعرف من خلالها جماليات الشعر السوداني، أو السياقات الفنية لهذه المختارات حسب ما أراد لها المُعدّ.

نقرأ في البداية من إبراهيم البكري (1970):

"أسهر مع محمد الماغوط وسركون بولص

لا نُسمّي الخرابَ الخرابَ إذ نقوله ولا نصمته حين نصمتْ.

معهما ألفُّ اللّيل والنّهار معا بحزن رهيف مثل ورق السجائر

نتشبث بجذع سجارة جمرتها الأرض ورمادها المنفوثُ أضغاث من سماء.

وحْدَنا وحديْ، أشفطُ الموت كلَّهُ

أشفطُ أحلام طير لم يزقزقه صباحٌ

ولم تُرفرفهُ حياة.

الدروبُ تلْصقُ في ريشي كإسفلت العذاب وأنا أمشيْ

أمشيْ،

كجبل ينهار في مجرّد شهقة".

ومن المغيرة حسين حربية نقرأ:

"كُنّا نَتَآنَسُ،

في رغوة وَحْدتِنا،

بالموت.

أفرغنا كلّ زجاجات الحمّى، الريح، وكتاب الصيف

أفرغنا الوطنْ.

كنّا نتلفّتُ بل أعناق أيضا".

ومن حاتم الكناني:

"أبكي من الداخل

وأغنِّي بروحي

كصخرة وحيدة في النسيان".

ومن عبد الوهاب محمد يوسف الذي توفي باكرا عام 2020 نقرأ:

"لم أكن يوما لأحد،

لم أُحب يوما قط، لا امرأةْ، لا وطنْ،

لم يكن الحبُّ سهلا،

فأقع في فخّه،

ولم أكن سهلا أيضا

فيقع الحبّ في فخّي،

كلانا لم يكن للأخر،

كلانا كان ضد الآخر".

لم تتضمن الأنطولوجيا مختارات لأهم من يكتب قصيدة النثر في السودان وإنما قدمت كل من يكتب هذا الشكل الشعري بمختلف أجيالهم

من خلال قراءة هذه المختارات (572 صفحة) نكتشف غنى وأهمية التجربة السودانية في قصيدة النثر وتعدّد مصادرها، سواء من أولئك الذين ما زالوا يعيشون في داخل السودان أو في الخارج. فنقرأ تجارب تذهب إلى لغة نثرية خالصة جديرة بالتنويه متل نصوص إيماض مهدي بدوي وأيمن هاشم وبيرا كرّا وبدري إلياس وحسام الكتيابي ورندا محجوب وريتا صابر وسارة حسبو وطارق الطيب وعفيف إسماعيل ومحمد عبد القادر سبيل.

ومع هذه الأهمية لا يمكن اغفال الإشارة إلى وجود نصوص قليلة مماثلة لبعض تجارب قصائد النثر العربية التي لم تخرج من غنائية قصيدة التفعيلة ورومنطيقية الشعر العمودي مع إعادة كتابة لمواضيع تعبيرية عن الوطن وحال الذات والحب حيث الحزن والبكاء والدموع. ولهذا يمكن القول إن الأنطولوجيا لم تتضمن مختارات لأهم من يكتب قصيدة النثر في السودان وإنما قدمت كل من يكتب هذا الشكل الشعري بمختلف أجيالهم ودون تحديد، إذ لم نعرف تواريخ ميلاد الكثير من الشعراء الذين تضمن الكتاب نصوصهم أو تواريخ صدور مجموعاتهم الشعرية، بما في ذلك تاريخ ميلاد مُعدّ الأنطولوجيا الشاعر أنس مصطفى الذي أدرجت بعض نصوصه في الكتاب، لذلك لن نتمكن من تحديد الأجيال الزمنية لمعظم الشعراء.

font change

مقالات ذات صلة