التطبيع مع طالبان... احتواء أم أمر واقع؟

ما الفارق الجوهري بين الحركة الأفغانية والتنظيمات المتطرفة العابرة للحدود؟

رويترز
رويترز
مقاتلون من حركة طالبان في القصر الجمهوري في كابول بعد فرار الرئيس أشرف غني في 15 أغسطس 2021

التطبيع مع طالبان... احتواء أم أمر واقع؟

استند تشكيل حركة طالبان للدولة على تفسيرها لمبدأ "الخلافة الإسلامية غير الجامعة"، وذلك استنادا لحقيقة تعدد "الخلافة" في الأمصار في فترة القرون الوسطى، حيث وجدت الدول التي يحكمها خلفاء يحمل كل واحد منهم لقب أمير المؤمنين. ورغم أن طالبان لم تستخدم لقب الخليفة، فإنها- عمليا- تتعامل مع زعيمها على أنه خليفة يلتزم جميع المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون في نطاق حكمه بطاعته بعد أن انعقدت له البيعة. وكما تم في عام 1996 عندما بويع الملا عمر، يتم اختيار "الأمير" من قبل مجلس محدود من القيادات الدينية بأسلوب "أهل الحل والعقد". وبناء على ذلك، فإن الانتخابات الشعبية ليست طريقا "شرعيا" لاختيار الحاكم وفق تفسير طالبان، والأمر نفسه ينسحب على الحكم الوراثي الذي لا يتوافق مع رؤية حركة طالبان للحكم الإسلامي.

بالتالي، تصر طالبان على أن نشاطها لا يتعدى حدود التراب الأفغاني، وأنه ليس لها طموح في تبني خطاب أممي يسعى لإقامة كيان سياسي موحد على أساس "الخلافة". وهذا هو الفارق الجوهري بين طالبان والتنظيمات العابرة للحدود مثل جماعة "الإخوان المسلمين"، وتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش". ونلحظ هذا من خلال تسميتهم لدولتهم بـ"الإمارة الإسلامية" وليس "الخلافة" أو "الدولة" مما يعكس محدودية طموح الجماعة في السيطرة على الحدود الجغرافية لبلدهم الذي تنتمي له قبائلهم. ويعضّد ذلك كون جميع قيادات وكوادر الحركة ينتمون إلى النسيج الشعبي الأفغاني، وليس بينهم مهاجرون. وبغض النظر عن تشدد الجماعة وتبنيها لأفكار متطرفة، فإن اقتصارها على أبناء بلدها يعطيها طابعا وطنيا يختلف عن تلك الحركات والتنظيمات ذوات الطابع العابر للحدود.

العودة للسلطة

عند محاولة تفسير الأسباب الموضوعية لعودة صعود طالبان، فإنها تتلخص في نوعين من المعطيات: داخلية تتجلى في عدم مواءمة الوجود الأجنبي لطبيعة المواطنين الأفغان الذين تغلب عليهم المحافظة. إضافة لعدم تلبية طموحاتهم في الأمن والحياة الكريمة ونقمتهم على القوة المفرطة التي استخدمتها "القوات المحتلة" ضدهم. يُضاف لذلك كونُ فكرة الثأر راسخة في صميم المكون الثقافي لقبائل البشتون. وتتجلى المعطيات الخارجية في إرهاق دول التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من تبعات استمرار وجودها في أفغانستان، إذ تكبدت تلك الدول الكثير من الخسائر المادية والبشرية خلال العشرين عاما التي بقيت فيها هناك.

تتبنى إدارة بايدن موقفا يعطي الأولوية للمصالح القومية الأميركية بغض النظر عمّا تؤول إليه الأمور في الداخل الأفغاني

في 7 سبتمبر/أيلول 2019، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب- بشكل مفاجئ- أنه دعا زعماء طالبان إلى كامب ديفيد لإجراء محادثات، ثم ألغى الاجتماع دون توضيح. ويُرجّح أن ترمب لم يكن مستعدا للتوقيع على الصفقة التي تفاوض عليها الطرفان بشق الأنفس على مدى تسعة أشهر، وأراد تحسين شروطها للجانب الأميركي. بعدها انتقلت المفاوضات إلى الدوحة، العاصمة القطرية التي شهدت في 29 فبراير/شباط 2020 توقيع اتفاق انسحاب القوات العسكرية من أفغانستان مقابل التزام طالبان بعدم السماح لأي شخص أو تنظيم باستخدام الأراضي الأفغانية لانطلاق أعمال معادية للولايات المتحدة وحلفائها.

وبالرغم من الاتفاق، فإن الحركة لم تنتظر انسحاب القوات الأميركية وقامت ببسط سيطرتها على البلاد مستغلة حالة الارتباك السياسي الأميركي بقيادة الرئيس جو بايدن الذي ألقى خطابا في 16 أغسطس/آب 2021، قال فيه: "لقد ذهبنا إلى أفغانستان منذ حوالي 20 عاما بأهداف واضحة، ألا وهي القضاء على من هاجمونا في 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتأكد من عدم تمكن تنظيم (القاعدة) من استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمتنا مرة أخرى. لقد حققنا هذه الأهداف، وحطّمنا وجود تنظيم (القاعدة) بشدة. لم نتخل يوما عن مطاردة أسامة بن لادن، وقد حققنا مرادنا منذ عشر سنوات... لم يكن من المفترض أن تتمثل مهمتنا في أفغانستان ببناء الدولة. لم يكن من المفترض أن نؤسس ديمقراطية موحدة مركزية... لا يمكن للقوات الأميركية ولا ينبغي لها أن تحارب وتموت في حرب لا ترغب القوات الأفغانية في خوضها من أجل نفسها. لقد أنفقنا أكثر من تريليون دولار في هذه الحرب، وقمنا بتدريب وتجهيز قوة عسكرية أفغانية قوامها حوالي 300 ألف جندي، ومجهزة بشكل جيد جدا، وهي قوة أكبر- من حيث الحجم- من جيوش الكثير من حلفائنا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)".

من الواضح أن إدارة بايدن تتبنى موقفا يعطي الأولوية للمصالح القومية الأميركية بغض النظر عمّا تؤول إليه الأمور في الداخل الأفغاني. بالتالي، فإن تحقيق الديمقراطية والحكم المدني في الدول الأخرى لا يكون على حساب المصالح الأميركية. ولضمان الحصول على شرعية دولية للاتفاق، فقد دعت الحكومة الأميركية وحركة طالبان مندوبين من 30 دولة ليشهدوا على الاتفاق.

ومنذ وصولها للسلطة في أغسطس 2021، وضعت حركة طالبان هدفا أساسيا لها لتثبيت نفسها كحكومة لأفغانستان. وهذا الهدف يتلخص في تحصيل الشرعية الدولية لها كممثل حصري للشعب الأفغاني المسلم الذي تعتبر شرعيتها الدينية عليه واضحة ومتحققة على قاعدة "ولاية المتغلب". وبالنسبة لنظرة الشعب لشرعية الحركة، فهي متحققة عند المتدين الأفغاني فالحركة حاكم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فله البيعة الشرعية والسمع والطاعة. أما من لا يؤمنون بالدولة الدينية، فإنهم يتعاملون مع الحركة بوصفها حكومة أمر واقع فرضت نفسها بقوة السلاح.

منذ سقوط حكومة أشرف غني، ودول الجوار معنية باستتباب الأمور على حدودها لأسباب متباينة بين العداء للولايات المتحدة، والقلق من تحول أفغانستان إلى نقطة انطلاق لعمليات عدوانية ضدها

وعلى الصعيد الدولي، فإن الدول الكبرى غير معنية بالأمور التي تمس حياة الشعب الأفغاني كالاقتصاد أو الصحة أو التعليم. فتلك القوى تطالب حكومة طالبان بأن تثبت جدّيتها في إدارة الملف الأمني بشقيه الداخلي والخارجي وذلك لمنع العمليات الإرهابية وتهريب المخدرات. ولذلك، تطالب الحركة بالتعاون الاستخباراتي مع دول الجوار والدول الكبرى من أجل منع العمليات الإرهابية التي قد تخطط لها الجماعات النشطة على الأراضي الأفغانية. يُضاف لذلك بعض المطالبات الشكلية المتعلقة بالأقليات الدينية والعرقية، والمرأة، والشؤون المتعلقة بالحريات الشخصية لعامة الشعب وهي أمور داخلية يستخدمها الغرب متى ما أراد الضغط على دولة ما.

وعلى الصعيد الداخلي، فإن طالبان لم تغير مواقفها من الحريات الشخصية للشعب الذي لا يرغب كثير منه في القيود التي تفرضها الجماعة. وبمقارنة تصريحات قيادات طالبان الحالية بقيادات الإمارة في التسعينات، نجد أن 22 عاما لم تغير من أساليبهم في الالتفاف على الأسئلة المحرجة حول وضع المرأة، ناهيك عن قناعاتهم التي لا يبدو أنها تغيرت أبدا. بل حتى أساليب التبرير التي ينتهجها القادة الحاليون هي نفسها التي كانوا يستخدمونها في فترة الإمارة الأولى.

بداية الاعتراف الدولي

بالرغم من عدم إعلان أي دولة اعترافها الرسمي بحكومة طالبان، فإن عددا من الدول تتعامل معها بوصفها حكومة أمر واقع كونها أصبحت الجهة التي تمسك بمفاصل السلطة في البلاد. هذا التوصيف مبني على موقف الأمم المتحدة التي تشير إلى طالبان في وثائقها بـ"سلطة الأمر الواقع" وتتمسك الهيئة برفض تسليم مقعد أفغانستان لحكومة طالبان، حيث إن ممثل أفغانستان الحالي "القائم بالأعمال" في الأمم المتحدة هو عضو بالبعثة التابعة لنظام الجمهورية الذي تم إسقاطه من طالبان. وحتى على مستوى الرياضة، شارك الرياضيون الأفغان في أولمبياد باريس تحت علم الجمهورية بعيدا عن سلطة طالبان، وهذا تأكيد لموقف الاتحادات الرياضية التي ما زالت تضع علم الجمهورية على حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي.

أ.ف.ب
انسحب الجيش الأميركي من أفغانستان في31 أغسطس 2021 بعد احتلال دام عشرين عاما

وعلى المستوى الإقليمي، منذ سقوط حكومة أشرف غني، ودول الجوار معنية باستتباب الأمور على حدودها لأسباب متباينة بين العداء للولايات المتحدة، والقلق من تحول أفغانستان إلى نقطة انطلاق لعمليات عدوانية ضدها. فقد رحبت إيران بخروج القوات الأميركية من أفغانستان واعتبرته فشلا عسكريا سيحسّن من مستقبل أفغانستان. وعليه فقد اعتمدت إيران مرشح طالبان لمنصب القائم بالأعمال محمد أفضل حقاني، في 26 فبراير 2023، وسلمته السفارة في طهران.

وعلى الجانب الباكستاني، صرح رئيس الوزراء الأسبق عمران خان أن الأفغان "كسروا قيود العبودية". كما حذر مستشار الأمن القومي الباكستاني- وقتها- مؤيد يوسف، من خطورة عدم اعتراف الغرب بـطالبان بأنها قد تصل إلى تكرار أحداث مشابهة لهجمات 11 سبتمبر. وفي مارس 2022، قبلت تركمانستان أوراق اعتماد القائم بالأعمال المعين من قبل طالبان في السفارة الأفغانية في عشق آباد، فضل محمد صابر، دون الاعتراف رسميا بالإمارة الإسلامية.

وتعتبر الصين الأجرأ من بين دول الجوار، حيث بادرت إلى إعلان احترامها لرغبات وخيارات الشعب الأفغاني وتأملها للتعاون والصداقة مع الحكومة الجديدة. وبالرغم من ذلك، فقد صرّحت الصين بتطلعها إلى الحصول على تأكيدات بأن طالبان لن تسمح لـ"الحزب الإسلامي التركستاني" (منظمة من أقلية الإيغور) بالعمل من أراضيها. وكخطوة جادة في بناء العلاقة، كانت الصين أول دولة تعين سفيرا- وليس قائما بالأعمال- في كابل في سبتمبر 2023، وفي مطلع عام 2024 اعتمدت بكين أوراق السفير المعين من طالبان.

الولايات المتحدة لن تقبل بأن تستحوذ الصين على مناجم التعدين في أفغانستان. وبالتالي، فإنها تسلك المنحى الدبلوماسي القائم على سياسة العصا والجزرة

وبالنسبة لدول الخليج العربي، فإن قطر تمثل المركز الدبلوماسي لـطالبان منذ 2012 عندما افتتحت المكتب السياسي للحركة بمساعدة الحكومة القطرية. وقد استضافت الدوحة جميع المفاوضات بين الحركة والولايات المتحدة. وبعد استيلاء طالبان على السلطة، سمحت الدوحة لها بالاستحواذ على سفارة أفغانستان في قطر. أما عن الإمارات، فبالرغم من التاريخ السلبي المتمثل في مشاركة القوات الإماراتية في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة، فإنها قد أجرت محادثات مبكرة (نوفمبر 2021) مع ممثلي طالبان حول مستقبل العلاقات بين البلدين. ولعل أبرز النوافذ التي فتحت تلك المحادثات تتلخص في أن الإمارات كانت تدير مطار كابل خلال فترة الجمهورية الأفغانية. وقد أعلنت وقتها التزامها بمواصلة المساعدة في تشغيله لضمان وصول المساعدات الإنسانية والممر الآمن للمسافرين. يضاف لذلك أن طالبان قد طلبت مساعدات مالية من الحكومة الإماراتية، مما مهّد لإعادة فتح السفارة الإماراتية في كابل لتسهيل الأنشطة التنموية التي تقوم بها الإمارات في أفغانستان.  وفي أغسطس الماضي أصبحت الإمارات الدولة الثانية- بعد الصين- التي تعتمد سفيرا لحكومة طالبان على أراضيها.

أ.ف.ب
نائب رئيس الطيران المدني الأفغاني غلام جيلاني وفا (إلى اليمين) في مؤتمر صحفي مع مسؤوليين من الإمارات، في كابول في 8 سبتمبر 2022

أما بالنسبة للسعودية، فهي ملتزمة بموقفها من حكومة طالبان التي تتعامل معها كحكومة أمر واقع في أفغانستان، فلا صداقة ولا عداء. وحتى إعادة افتتاح السفارة السعودية في كابل- بتمثيل دبلوماسي مخفض إلى "قائم بالأعمال"- أمر تعتبره الرياض ضروريا لرعاية المصالح السعودية القائمة في العهد السابق لـطالبان، ولأجل تسهيل أمور الحجاج الأفغان الذين ينوون زيارة الأماكن المقدسة.

بين التحفظ والانفتاح

وفي الوقت الذي يتعامل فيه المجتمع الدولي مع طالبان بحذر شديد، تبرز الصين والإمارات بأنهما الأكثر مرونة وودية في التعامل مع حركة طالبان. فالصين معنية بشكل مباشر بالشأن الأفغاني بسبب التجاور الحدودي والذي يستدعي أهمية التنسيق الأمني لضمان عدم استخدام الأراضي الأفغانية في أعمال معادية للصين. إضافة للشأن الاقتصادي حيث تنظر الصين لأفغانستان بوصفها سوقا لمنتجاتها من جهة، وجزءا استراتيجيا من مشروع مبادرة الحزام والطريق من جهة أخرى.

ثمة عدة دراسات تحدثت عن الموقف الصيني المبني على استراتيجية بكين في إعادة إحياء مشروع "طريق الحرير" القديم. ويرى كاريس ويت وتومي شتاينر في مقال نشراه في "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" أن إعادة إحياء ذلك المشروع يهدف إلى تعزيز الترابط والاعتماد المتبادل لمواجهة التغيرات الهائلة في الاقتصاد العالمي ومواكبة التوازنات الجيوسياسية في العالم.

أ.ف.ب
مسؤولون قطريون ومسؤولون من حركة طالبان بجوار طائرة محملة بالمساعدات تابعة للقوات الجوية القطرية تحمل مساعدات إنسانية مقدمة من قطر إلى أفغانستان

ومن خلال تنفيذ هذا المشروع، تهدف الصين إلى الوصول إلى أسواق جديدة، وتأمين سلاسل التوريد العالمية التي ستساعد في المقابل في تعزيز النمو الاقتصادي الصيني، وبالتالي المساهمة في الاستقرار الاجتماعي في الداخل الصيني. وقد عزّزت الصين نشاطها في منطقة الشرق الأوسط في السنوات القليلة الماضية، وأقامت علاقات ودية مع مجموعة من دول المنطقة دون النظر لمواقفها المتباينة من الانقسامات الإقليمية، وهذا ما يفسر احتفاظ الصين بعلاقات مميزة مع كل من المملكة العربية السعودية وإيران.

في المقابل، فإن الولايات المتحدة لن تقبل بأن تستحوذ الصين على مناجم التعدين في أفغانستان. وبالتالي، فإنها تسلك المنحى الدبلوماسي القائم على سياسة العصا (ملفات الجماعات الإرهابية وحقوق الإنسان التي تنتقد من خلالها سلوكيات طالبان)، والجزرة (صفقات التسليح والمعلومات الاستخباراتية التي تستطيع تقديمها لطالبان).

واشنطن بحاجة لقنوات غير مباشرة تتعامل مع حكومة طالبان لمنع تسليم أفغانستان لخصومها وعلى رأسهم الصين، وروسيا، وإيران

إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان والذي يتزامن مع التعامل المحدود جدا مع طالبان من قبل واشنطن من شأنه أن يترك أفغانستان لخصوم واشنطن، وأبرزهم الصين، وروسيا، وإيران، والجماعات المنفلتة (مثل "داعش خراسان"). ولذلك، فإن الخيار الأمثل هو الإبقاء على خط مفتوح يرعاه حليف موثوق. وفي هذا السياق كانت قطر والإمارات الخيارات الأمثل.

تتعامل قطر مع الشأن الأفغاني بشكل وظيفي يُبقي مسألة التواصل الأميركي مع طالبان في حدود الحاجة، تماما كما تفعل مع حركة "حماس". ولم يتعدَ الدور القطري المسألة اللوجستية التي احتاجتها الولايات المتحدة للتعامل مع طالبان. ولكن بعد استحواذ الحركة على الحكم في البلاد، فإن التعامل يحتاج بعدا أعمق يتناسب مع التحول من طالبان "الفصيل المسلح" إلى "النظام الحاكم".

وقد استضافت أبوظبي الرئيس المخلوع أشرف غني وعددا من أفراد حكومته الذين فروا إليها في أغسطس 2021. لكن الاستضافة مشروطة بعدم ممارسة النشاط السياسي على أرض الإمارات. ثم أتت الخطوة التالية بتحويل طالبان توجهها في التعاقد مع تركيا وقطر لإدارة شؤون مطار كابل إلى الإمارات التي حصلت إحدى شركاتها (GAAC Solutions) على عقد تشغيل مطارات أفغانستان في هرات وكابل وقندهار، حيث أُنجِز العقد الثالث والأخير في سبتمبر 2022 عقب الزيارة السرّية التي قام بها نائب رئيس الوزراء في حركة طالبان، الملا عبد الغني برادر، إلى أبوظبي.

وفي 4 يونيو/حزيران الماضي استقبل محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات وزير الداخلية الأفغاني سراج الدين حقاني في أبوظبي عندما كان الأخير في طريقه للحج. وفي المقابل، لم يُعلن عن أي لقاء رسمي بين حقاني والقيادة السعودية، في دلالة لكون طبيعة زيارته لم تتجاوز أداءه لفريضة الحج، مما يعكس طبيعة العلاقة مع طالبان.

إن طبيعة التنافس الإماراتي- القطري في الملفات السياسية المختلفة دعمت فكرة ترسيخ علاقتها بالحركة التي تحكم أفغانستان بشكل عاجل. فعند الأخذ في الحسبان أن قطر قد شكّلت المحطة الدبلوماسية لـطالبان منذ 2012، نستطيع تفهم حرص أبوظبي على تقديم إغراءات سياسية واقتصادية لجذب طالبان من منافسها الإقليمي. يُضاف لذلك أن تقوية العلاقة مع طالبان ستصعّب من تزايد النفوذ الإيراني في أفغانستان، وهذه مصلحة مشتركة بين أبوظبي وحركة طالبان التي لديها الكثير من الأسباب لتسعى لكبح النفوذ الإيراني، ومنها: الاختلاف المذهبي، الاصطدام العسكري في فترة التسعينات، ودعم إيران لـ"لواء فاطميون" الشيعي الأفغاني الذي يحارب في سوريا.

إن انفتاح بعض الدول على طالبان يستدعي كذلك دورها السياسي في تحالفاتها الدولية. وواشنطن بحاجة لقنوات غير مباشرة تتعامل مع حكومة طالبان لمنع تسليم أفغانستان لخصومها وعلى رأسهم الصين، وروسيا، وإيران. فعلى المستوى الاقتصادي تسعى الصين لمد أذرعها في الداخل الأفغاني لإعادة إحياء مشروع "طريق الحرير" القديم. يحدث كل هذا دون أن ترسل الصين جنديا واحدا للبلد الذي ضحّت فيه الولايات المتحدة بـ2459 قتيلا و20769 جريحا من جنودها خلال 20 عاما من الوجود الأميركي في أفغانستان.

نجحت طالبان بشكل تام في إحكام سيطرتها على البلاد، وانتزاع الاعتراف الدولي الضمني بشرعية حكمها الذي لا ينازعها فيه أحد

هذه المخاوف الأميركية تناقض ما سبق وتم تداوله من مبررات للانسحاب من أفغانستان التي وصفها بعض المحللين بأنها تصب في صلب المصلحة القومية الأميركية. وقد سبق ونشر موقع مجلة "نَايشن" مقالا مشتركا لثلاثة من كبار باحثي "معهد كوينسي" بواشنطن بعنوان: "لماذا يتوجب على بايدن الاستمرار في الانسحاب بعد أفغانستان"، وأبرز ما جاء فيه أن الانسحاب من أفغانستان قد عاد على الولايات المتحدة بفائدتين سياسيتين ودبلوماسيتين مهمتين:

1- ستتحمل الصين وروسيا وإيران أعباء إرساء الاستقرار في أفغانستان والتعامل مع اللاجئين ومكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية الأخرى في البلاد. لقد أنفقت الولايات المتحدة مواردها في أفغانستان على مدار العشرين عاما الماضية، مما وفر خدمات مجانية لكل من الصين وروسيا وإيران للعمل على مشاريعها التي تتعارض مع المصالح الأميركية. الآن، يتعين على هذه الدول التي لديها مصالح أمنية في أفغانستان تفوق بكثير مصالح الولايات المتحدة أن تنفق المزيد من مواردها الخاصة في التعامل مع أفغانستان تحت حكم طالبان.

2- عندما تنسحب القوات الأميركية، ستضطر الجهات الإقليمية الفاعلة إلى تولي زمام أمنها الإقليمي. وهذا ما يقلل العبء الأمني على الولايات المتحدة في منطقة تتناقص أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، مما يسمح للمسؤولين الأميركيين بالتركيز على مشاكل أكثر إلحاحا، بما في ذلك استثمار الموارد القومية في الاحتياجات الأساسية للشعب الأميركي.

ماذا بعد

لا شك أن ما حصل خلال السنوات الثلاث اللاحقة للانسحاب الأميركي قد بعثر الكثير من الأوراق الاستراتيجية، وعلى رأس تلك التغيرات حرب غزة التي استدعت توجيه القوات الأميركية لمنطقة البحر المتوسط، واشتعال جبهة اليمن بترصد "الحوثيين" لحركة الملاحة في البحر الأحمر.

وكانت الولايات المتحدة تدفع ثمن استقرار أفغانستان الذي يصب في مصلحة خصومها، لكنها ترى أن انسحابها سيجعل من أولئك الخصوم شركاء لحركة طالبان مما سيعزز مكانتهم الاستراتيجية في أفغانستان. وهنا يأتي السؤال: ماذا تريد الولايات المتحدة من أفغانستان بعد الانسحاب؟

ربما تكون الإشكالية الغائبة عن واشنطن أن خصومها التقليديين هم جزء من الجغرافيا السياسية لأفغانستان، وأن أي فصيل يحكم البلاد سيحتاج لعلاقات طيبة مع الصين، وروسيا، وإيران بسبب وجود مصالح مشتركة. فالولايات المتحدة التي أطاحت بحكم طالبان في 2001 وبقيت تحمي النظام الجمهوري لعقدين كاملين تجد نفسها اليوم عاجزة عن مزاحمة دول لا تتفق أيديولوجياً مع طالبان، ولكن الحركة تجد معها آفاقا مشتركة للتعاون أكثر من الولايات المتحدة التي تصر على رفض الاعتراف بطالبان ولو ضمنيا.

وخلال عدة مناسبات إعلامية، صرّح محللون أميركيون بأن واشنطن تثمّن جهود أبوظبي باستقبال مسؤولي حركة طالبان. وقد يُفهم من ذلك أن انفتاح الإمارات على حكومة طالبان قد تم تعزيزه بناء على تنسيق مع واشنطن من أجل قطع الطريق على خصومها ومنعهم من الاستحواذ على أفغانستان.

خلاصة القول إن طالبان قد نجحت بشكل تام في إحكام سيطرتها على البلاد، وانتزاع الاعتراف الدولي الضمني بشرعية حكمها الذي لا ينازعها فيه أحد. وما انفتاح دول عليها إلا من أجل ضمان موطئ قدم لحليفهما الدولي الرئيس (الولايات المتحدة) التي لا تريد لبقية القوى الإقليمية أن تنفرد بأفغانستان.

font change

مقالات ذات صلة