دراما العودة إلى الماضي في مسلسلين مصري وأميركي

بين "عمر أفندي" و"كايوس"

ملصق مسلسل "كايوس"

دراما العودة إلى الماضي في مسلسلين مصري وأميركي

العودة إلى الماضي، هي ثيمة، أو لنقل مزاجا مطروقا في الأعمال الفنية، العربية والغربية على السواء. قد تُشيَّد القصة في الماضي تماما، فتمنح صنّاع العمل فرصة لاستعراض أجواء عصر قديم، مما يساهم في خلق هوية بصرية وحكائية جذابة. أو قد تأتي في صورة السفر عبر الزمن، كما دأبت على ذلك أعمال الخيال العلمي، مما قد يمنح المُنتَج الفني هذه المرة فرصة لزيارة الحاضر، ومقارنته مع الماضي، ومن المفترض أن يعطي هذا الاتجاه ثراء بصريا وفكريا للعمل المنشود.

في الآونة الأخيرة شهدت منصة "شاهد" عرض مسلسل "عمر أفندي" من تأليف مصطفى حمدي وإخراج عبد الرحمن أبوغزالة، وبطولة أحمد حاتم. يستمد العمل اسمه من متجر شهير وعتيق في مدينة الجيزة، كان علامة على الجودة والأناقة قبل عقود من الزمن عند المتسهلكين المصريين. ينطلق "عمر أفندي" من لحظتنا الراهنة، عائدا إلى الماضي، تحديدا عام 1943، عبر حيلة لم يعرف سرها سوى تُهامي وابنه علي. ويتقدَّم المسلسل بعد ذلك، في مسارين مزدوجين، بين هنا واليوم، وعبر رحلة تُحرِك النوستالجيا عند المتفرجين، وتثير حنينا لذيذا إلى قاهرة أخرى، أكثر أناقة، وأقل تقلبا، ومصر كذلك، في استعادة لعالم بسيط وبريء، ولو حتى مختلق كليا، والنتيجة أن العمل استُقبل بحفاوة ملحوظة من جانب الجمهور.

على الضفة الأخرى، طرحت منصة "نتفليكس" العالمية مسلسل "كايوس" أو فوضى. وهو عمل فانتازي غرائبي، لا يخلو من إسقاطات على عالمنا الراهن. ينتمي "كايوس" إلى زمن قديم ظاهريا، غير أن أحداثه تنطوي على الأزمنة الثلاثة تقريبا. نحن أمام صراع ملحمي محتدم لآلهة الأولمب، وهي هنا عائلة رأسمالية متوحّشة، تحكم جزيرة كريت، إنما أيضا العالم أجمع، وتُجيد ألعاب السياسة الغربية الحالية وسخريتها وربما حتى تعاليها على الشعوب والفئات التي تراها أدنى. ويلوح ظل المستقبل خصوصا، في قدرة أولئك الأولمبيبن على تحدي الزمن، والمرور بين الحياة والموت، في تكنولوجيا خاصة، تتفوق على أي صورة متخيّلة عن التكنولوجيا. في غضون زمن قصير، تربع "كايوس" على عرش العشرة أعمال الأعلى مشاهدة على قائمة منصة "نتفليكس".

هل هي عودة مجانية إلى الماضي، أم بدافع الملل من الحاضر؟ أم أن شيئا هناك، في تقاطع أزمنتنا الإنسانية، يستطيع أن يحلّ مسألة في اللحظة العالمية الراهنة؟

السؤال الذي تثيره مشاهدة عملين متجاورين إلى حد ما في الثيمة، أو المزاج، إلى جانب بالطبع سؤال المتعة، هو لمَ هذه العودة إلى الماضي؟ هل هي عودة مجانية، أم بدافع الملل من الحاضر؟ أم أن شيئا هناك، في تقاطع أزمنتنا الإنسانية، يستطيع أن يحلّ مسألة أو صعوبة ما في لحظتنا العربية أو العالمية الراهنة؟

"عمر أفندي" والحنين إلى مصر القديمة

أكثر ما يلفت في مسلسل "عمر أفندي" من بطولة الممثل الشاب أحمد حاتم، هو هذا الالتفاف الجماهيري حول الخمس عشرة حلقة التي يتكوَّن منها العمل. منذ موسم رمضان تقريبا، يمكن القول إن عملا دراميا لم يحصد كل هذا الاهتمام والتفاعل من جانب المشاهدين. تحوّل "عمر أفندي" إلى ظاهرة فنية وجماهيرية، والأسباب أبعد من أن نحصرها في التميز الفني، أو انعدام الملاحظات النقدية على العمل، ذلك أن "عمر أفندي" يعج في النهاية بالكثير من الركاكة الفنية، إذا شئنا الإنصاف.

مع ذلك، فإن لمصر القديمة هنا سحرا لا يُنكر. ولا أعني بها المنطقة الجغرافية. بل السياق اللغوي والمكاني. عالم التياترو، والنِمر التي تقدمها العوالم، ويغنيها المطربون، حتى بطل المسلسل يقدم فقرة غنائية ممتعة. هذه الحالة، من السعي إلى الإمتاع والإبهاج تبدو هي اللافتة الرئيسة التي رفعها صناع هذا العمل. ينطلق المسلسل من لحظة وفاة والد علي، السيد تُهامي، ومع هذه الوفاة يتداعى عالم علي، أحمد حاتم، ويكتشف أن حياته الزوجية خالية من المعنى، فيعود إلى بيت أبيه، الذي رحل وهو مُخاصِمه. وهناك يكتشف سردابا، ينقله من زمننا الحالي إلى العام 1943. من حيث كان يتنقل أبوه سرا، بين عالمين، عالم اليوم، وفيه تُهامي وحيد كليا، وعالم الماضي، وهناك له زوجة هي، الراقصة المعتزلة دلال، رانيا يوسف، وابنتها زيزي أو آية سماحة، التي تعمل في تياترو الشرير المتعاون مع الإنكليز أباظة (محمد حافظ)، حتى تسدّ دين والدتها.

يحاول المؤلف أن يحاكي اللغة البطيئة القديمة، التي نشاهدها في أفلام الأبيض والأسود، فينجح مرة ويخفق مرة. ومع أن حكاية العودة بالزمن إلى الوراء، هي بلا شك الثيمة الأكثر لمعانا في "عمر أفندي"، فإن التفسير الفني، لوجود هذا السرداب، غائب طوال الحلقات.

ملصق مسلسل "عمر أفندي"

يقدِّم "عمر أفندي" حالة فنية تتسم إجمالا بالبراءة والتبسيط الشديد، مما يذكرنا أيضا بأفلام الأبيض والأسود القديمة. فالناس إما طيّبون ومستضعَفون، مثل زيزي ودلال، وإما أشرار سارقون خائنون مثل أباظة والتاجر اليهودي سعيد شلهوب. وحتما يحتدم الصراع بين الفريقين، وينخرط علي، الذي يصطنع لنفسه هوية مختلفة، للزمن القديم فيصبح اسمه "عمر أفندي"، في محاولة الانتصار للخير. لكن وطوال خمس عشرة حلقة تمتد وتطول وتستغرق في قصص، سرعان أن تُنسى، وكأنها لم تكن، لنعود دائما الى نقطة الصفر وهي انتصار الشر إلى حين. وعلى الرغم من ذلك الشر، الذي يُظهره المسلسل في الماضي، فإن فلسفة العمل تميل إجمالا إلى أن الماضي أطيب وأزكى، وإن الحاضر سيء ولا يستحق العيش على الرغم من كل المظاهر الخداعة.

يقدِّم "عمر أفندي" حالة فنية تتسم إجمالا بالبراءة والتبسيط الشديد، مما يذكرنا أيضا بأفلام الأبيض والأسود القديمة

لماذا العام 1943 بالتحديد؟ لا أحد يدري. إن كنا في حاجة إلى مئة عام، كفارق بين العالمين، فكان الأجدر مثلا اختيار 1924. ومع ذلك، يُحسب لصُناع مسلسل "عمر أفندي" تمسكهم بأن يقدموا عملا خاليا تقريبا من العنف، مع أن النضال ضد الإنكليز، كان السائد في ذلك الماضي. رسم كلٌ من المخرج والمؤلف هالة من البراءة حول "عمر أفندي"، تنفع في حد ذاتها كمهرب من الواقع بهمومه المعقدة اقتصاديا واجتماعيا، سواء عند علي، غير القادر على حل مشكلاته المعاصرة، أو عند المتفرجين الذين تمتعوا بلا شك بهذه الأجواء. براءة لم يجرحها إلا التبشيع الزائد على الحد لشخصية المصري اليهودي سعيد شلهوب (محمد رضوان) الذي تكاد تجتمع في شخصه كل الموبقات، من خيانة للعهد وبخل وتعاون مع الإنكليز وتفريط في الهوية. وهو طرح اختزالي ومسيء ليهود مصر، الذين كان من بينهم فنانون وأقطاب مسرح وصناعة وصحافة، أثروا الحياة الاجتماعية والثقافية.

الطفل جان رامز في لقطة من مسلسل "عمر أفندي"

على أي حال، في "عمر أفندي" لا علامات مميزة في الشخصيات المقدمة. وتظهر معظم الشخصيات ثابتة أحادية البعد، بما يخدم حالة التبسيط تلك. وينعكس ذلك للأسف على الأداء الفني للممثلين، باستثناء دياسطي (مصطفى أبو سريع) الشخصية الوحيدة تقريبا التي قدَّم لها المسلسل أبعادا وأسئلة وكوميديا مناسبة لروحها. وكذلك الحال مع ضيفة الشرف ميمي جمال، زعيمة عصابة الأطفال، ومنهم الطفل الموهوب جان رامز.

"عمر أفندي" عمل ناجح بحسابات الجماهيرية، وكان يمكن بالحسابات الفنية أن يكون أفضل، ربما إن اختُصرت الحلقات إلى نصف عددها الحالي. يشير نجاحه بوضوح إلى حاجة الجمهور، إلى الماضي، اكتشافه، والعيش المؤقت فيه، من دون تقريبا أي شرط، إلا الزوغان قليلا من قلق ورُهاب عالم اليوم. على أي حال، أمام فريق العمل فرصة للتطوير، في الجزء الثاني الذي يُقال إن التحضير يجري له حاليا.

"كايوس"... آلهة الأولمب في العالم المعاصر

في نهاية الشهر الماضي، طرحت منصة "نتفليكس" مسلسل "كايوس" أو Kaos، من ابتكار شارلي كوفيل، ومن كتابته مع جورجيا كريستو، وإخراج جورجي بانكس دافيس ورونيارورا مابفامو. أما البطولة فلكوكبة من النجوم الذين يُجسّدون آلهة الأولمب في أثواب معاصرة، ومنهم ستيفن ديلان، في دور بروميثيوس، سارق النار، الذي يستقبلنا مصلوبا على جبل، يأكل النسر من كبده، وبابتسامة ساخرة يرافقنا صوته إلى المتاهة المتشعبة، التي تُنسج منها أحداث "كايوس". يطمئننا بروميثيوس، بأننا حتى لو جهلنا بتفاصيل هذا العالم ما قبل التاريخي، فلا بأس، سيشرح هذا العالم لنا نفسه بنفسه.

ومن المفترض أن بروميثيوس يتعرض للعقاب، على مخالفته للآلهة، من صديقه كبير هذه الآلهة زيوس، يؤدي الدور جيف غولدبلم، ويظهر في زي ثري رأسمالي يخلو من العواطف، متقلب المزاج، حصل على زعامته الحالية بعدما قتل أباه، القاسي اللامبالي، وها هو اليوم، ينتهي كما يقول له صديقه المخلص وأسيره بروميثيوس، أسوأ من أبيه. ويشير هذا الخيار الدرامي، بسرد الأحداث من وجهة نظر سارق النار المُعاقَب، إلى فلسفة العمل الثورية المتمردة على العقائد الجامدة وعلى التلاعب بمصائر الشعوب.   

في هذا العالم الغرائبي وربما الافتراضي أيضا، تمكن زيوس وزوجته هيرا، تؤدي الدور جانيت ماكتير، من إقناع البشر أن الطريق الوحيد إلى تحررهم يمر عبر خضوعهم للبشاعات التي يفرضونها عليهم، والنبوءات العنيفة التي يلقونها عليهم، منذ لحظة ميلادهم. ولا يمنع ذلك بروميثيوس، الذي يتمتع بالكياسة والحكمة، من أن يقود شبه ثورة، من داخل النظام، ضد سلطة زيوس المتداعية، وتساعده في ذلك، تلك النبوءة التي لا يستطيع زيوس التخلص من إلحاحها في رأسه، وتظل تتكرر في الثماني حلقات التي يتكون منها العمل: "سيظهر خط، ويضمحل النظام، فتسقط العائلة، وتهيمن الفوضى". إن الفوضى التي تخيف زيوس وعائلته التي تتحكم في البشر عبر غرس التعصب العقائدي والعنصرية وتجني الثمار باستمرار، هي نفسها الفوضى التي تبدو المخرج الوحيد للبشرية من هذه الهيمنة الدائمة، التي تستفيد منها هذه العائلة السارقة لأرواح البشر، كي تتجدد حيواتها هي إلى ما لا نهاية.

كل خط، كل شخصية من شخصيات آلهة الأولمب، يقابلها ويتقاطع معها خط وشخصية من البشر الفانين. مثلا ديونيسوس، إله المتعة، وابن زيوس، يؤدّي دوره نابهان رزوان، يحاول أن يحصل على رضاء أبيه، وحين يفشل يتحداه فيقود أحد البشر، وهو أورفيوس (كيليان سكوت)، إلى عالم الموتى، الذي لا ينبغي أن يخطو إليه إنسان كي يخلص حبيبته من الموت، ريدي، تلعبها أوروا بيرينو. وكذلك يفرض زيوس على حاكم جزيرة كريت، ماينوس، أن يقتل ابنه وحش المينوتور، كي يصدّق زيوس أن بإمكان البشر أن يتحدوا نبواءتهم، وبالتالي أن يتخلص هو من نبوءة الفوضى. ويقود هذا الأمر آري، تلعبها ليلى فرزاد، ابنة الحاكم، إلى كشف سر تضحية أبيها بابنه وأخيها غلوكوس من أجل بقاءه في حكم كريت، فتثور بدورها على فساد الأب والآلهة معا.

كل خط وشخصية من شخصيات آلهة الأولمب، يُقابلها ويتقاطع معها خط وشخصية من البشر الفانين

هذه الخلاصة الاختزالية لفكر "كايوس" تتجسّد في المسلسل عبر رؤية فانتازية كوميدية ساخرة، تمرّ بلحظات من العنف البالغ، مثلا حين نرى المهاجرين الطرواديين معلّقين مقتولين بعدما أعطاهم رئيس كريت أمانا كاذبا، عقابا لهم على لفتة السخرية من آلهة الأولمب. لكن هناك أيضا لحظات من الحب والدفء والغناء، ومن العدل المؤقت: حين تنفذ مثلا فرقة المنتقمات أعمالها التطهيرية ضد المغتصبين واللصوص. ويغرق "كايوس" عموما في كرنفال من الألوان والأشكال البشرية، المشوهة أحيانا أو غير المحدّدة الجنس، بصورة جمالية طريفة من جانب، ومتحدّية وساخرة من سلطات الآلهة المتخيلة، التي تُحاكي عالم اليوم، من جانب آخر.

جيف غولدبلم في دور زيوس في "كايوس"

يتجلّى المستقبل في "كايوس" في القدرة على القطع مع الماضي، وعلى كشف أكاذيبه ومساوئه. بل لا يمكن للمستقبل أن يأتي في هذا العالم الفوضوي إلا عبر رؤية نقدية إنسانية لكل من الماضي والحاضر. يمكننا أن نتخيّل في النهاية أن تحقق النبوءة وتداعي عائلة زيوس، وانتقال السلطة، يعنيان بداية التاريخ الإنساني الحديث وانتهاء الماضي الأسطوري الخرافي تماما، ومع ذلك فإن الإسقاطات التي يقدمها العمل تجعله قادرا على الإشارة إلى مواطن الفساد في عالمنا المعاصر، وإلى التنبؤ ربما بحتمية التغيير. "فوضى" الذي يتكون من ثماني حلقات فقط، يبلغ طول الحلقة الواحدة ساعة تقريبا، يقدم أداءات رائعة لفريق ممثليه من الكبار والشباب، ولا يتخلى عن التشويق، للحظة واحدة، وهو من الأعمال المثيرة بصريا وفكريا، والمحرضة على الأسئلة، وعلى التمني أيضا، لو كانت الحلقات أكثر.

font change

مقالات ذات صلة