إلياس خوري عاشق فلسطين

إلياس خوري عاشق فلسطين

رحل الروائي والناقد والإعلامي اللبناني إلياس الخوري مبكرا عن عمر يناهز السادسة والسبعين، تاركا وراءه إرثا متنوعا من روايات ومقالات وكتب نقدية وأبحاث. عمل في تحرير عدة صحف منها "السفير" وترأس تحرير الملحق الثقافي في جريدة "النهار" و"مجلة الدراسات الفلسطينية"، لكن أهميته الكبيرة تبقى في رواياته التي ترجم بعضها إلى لغات عدة.

رحل إلياس الخوري، المناضل للقضية الفلسطينية، وفلسطين تعيش نكبة جديدة وخطيرة، النكبة الجديدة المستمرة أبدا كما كتب مرارا. هو ابن الجامعة اللبنانية، درس التاريخ في كلية التربية، ومن هناك بدأ نضاله السياسي، فشارك في تظاهرات الحركة الطالبية، والسياسية، وكان حاضرا في معظم التحركات والمناسبات خصوصا عندما اغتيل صديقه سمير قصير، وكذلك في "انتفاضة 14 آذار" اللبنانية. حمل السلاح الفلسطيني في أحداث عام 1975 وأُصيب بعينه أثناء المعارك التي اندلعت في بيروت.

تميّز الراحل في التزامه الدائم قضيته الكبرى فلسطين المحتلة، وكان شريكا أساسيا في بناء المقاومة، وليس رديفا لها، مما جعله حالة استثنائية ناشطة فيها، وفي مختلف الأحداث البعيدة، فهو إلى كتاباته الروائية، ذو نَفَس تحرري، واجتماعي وأيديولوجي، كان سندا ثقافيا للمقاومة الوطنية بقلمه وفكره وحياته. كأنه وُلد ليناهض الثوابت الماضوية في رواياته وأبحاثه وكتاباته النقدية، بل كان شغوفا بالحرية، معارضا مجمل الظواهر الغيبية والرجعية، وجسّد ذلك في مساهمته في إصدار مجلة "مواقف" مساهمة أساسية، بمقالاته وأبحاثه التي تصبّ في مسألة الحداثة، متجاوزا الكليشيهات الكثيرة. وهو، إلى ذلك، دعم وجهات نظره بكتابات نقدية، وخصوصا الروائية... لكنه، لم يتوقف عند مرحلة من مراحلها، في أعماله الروائية، وأهمها "باب الشمس"، و"أولاد الغيتو" و"اسمي آدم"، و"نجمة البحر" و"الجبل الصغير".

كأنه وُلد ليناهض الثوابت الماضوية في رواياته وأبحاثه وكتاباته النقدية، بل كان شغوفا بالحرية، معارضا مجمل الظواهر الغيبية والرجعية

إن ثقافته المتعددة، وتجاربه الثرية، حالت دون وقوعه في النمطية والتكرار، كأنه كان ينافس نفسه في كل إصدار له، ومن دون أن يقلّد نفسه، أو الموجات التي كثرت في الرواية العربية وغيرها. فلكلّ رواية مناخها ولغتها وموضوعها، ولكلّ تجربة لغتها، ومدارها، وتتحرّك وتنبت من الواقع المعيشي والفكري. من هنا بالذات لم يكتب إلياس خوري نصوصا تجريدية، أو مقتبسة، أو فردية مغلقة، فالمجتمع القريب بتناقضاته وأشكاله وأنماطه، هو الذي يملي عليه أعماله، كأنما هذه الأحوال من يومياته، يحوّلها إلى حدث في الكتابة.

هكذا بنى طليعيّته وتجدّده وتميّزه. فلا أبحاثه عن "الحداثة" جعلته ذا حداثة واحدة، فالحداثة عنده حداثات، والرواية روايات، والشخصيات مختلفة مشغولة بتأنٍّ في رسمها. وإذا كانت روايته الأولى "الجبل الصغير" مقتبسة من مكان إقامته في بيروت، فهي كانت توحي بقماشته الخاصة، وبمناخة اليومي، فهي نضرة ورشيقة في أسلوبها ومسارها، على عكس "باب الشمس"، وهي من أهم ما كتب، التي غرف فيها من تواريخ القضية الفلسطينية وتفاصيلها، فكان سباقا في وضع صورة بانورامية وحديثة للقضية الفلسطينية. إنها رواية العمل الدؤوب الخاص بمطالعته وسرديّته؛ تبدو عملا توثيقيا لجأ في صوغه إلى أحداث وتواريخ واقعية، تذكّرنا بواقعيات الروائي الفرنسي إميل زولا، وبتولستوي، في "الحرب والسلم" (من دون تأثّر مباشر بهما)، وهنا تبدو أهميته، سواء في مواده المستخدمة أو في أسلوبه. فالسردية بعناصرها التحمت بالموضوع والحدث، من دون الوقوع لا في الفصاحة، أو في الألغاز، أو في التوريات، أو البلاغة، كما فَعَلَ العديد من الروائيين اللبنانيين والعرب. إنه يلتقي نجيب محفوظ في لغته الصافية والبسيطة من دون تعقيدات مفتعلة، وكذلك في واقعيته القضايا الاجتماعية، ويوسف إدريس في مباشرته. بمعنى أن رواية خوري دائما ما تبحث في ما وراءها، أي الموقف، المتعدّد والمركّب. وهذا بالذات ما جعلها ذات تأويلات ومعانٍ مفتوحة.

رحل وفي قلبه غصّة أن يرى فلسطين اليوم، كفلسطين 1948، منكوبة بوحشية إسرائيل ونوازعها الاستعمارية

صحيح أنه ملتزم قضايا الحرية وفلسطين ولبنان، إلا أنه صاغ نصوصه بحسّ جمالي عارٍ من التعقيد، وذي دلالات: تماما كما تقابله في الشارع، تسأله فتأتي أجوبته تلقائية ومختصرة، والأهم، في أعماله أنه لا يقع لا في الثرثرة ولا في الشكلانية. لغة خاصة، تنمو بنمو حصيلتها، وأهدافها وطريقتها ومجازاتها، ولهذا نجد بعض روايته متوسطة الأحجام (ما عدا "باب الشمس")، ولهذا استقبلت في لبنان والعالم العربي والأجنبي باستحسان، فهو الكاتب اللبناني الأكثر نقلا إلى لغات أخرى، بل هو أكثر مَنْ كُتب عنه بلغات أجنبية. إنه لبناني من دون مواويل، وعربيّ من دون انغلاق، وفلسطيني رافق القضية في أقسى مراحلها، فهو لم يكفّ يوما عن النضال من أجل فلسطين التي لم تكن في باله فحسب، بل في ضميره وقلبه.

رحل إلياس الخوري وفي قلبه غصّة أن يرى فلسطين اليوم، كفلسطين 1948، منكوبة بوحشية إسرائيل ونوازعها الاستعمارية.

font change