زاهر الغافري: خارج المكان... داخل القصيدة
أحد رواد قصيدة النثر في الخليج العربي
زاهر الغافري: خارج المكان... داخل القصيدة
قبل أن نقرأ خبر رحيله أول أمس، كان المرض أجبر الشاعر العُماني زاهر الغافري على الانزواء. اختفت صوره المألوفة. لم يعد يتصل كعادته بأصدقائه في أوقات يختارها هو كي يحدثهم عن جديده وأسفاره وشغفه بالشعر وبالحياة التي استقرّت به أخيرا في السويد. قبل ذلك كان نشر شيئا على صفحته في "فيسبوك" يوحي فيه بأن جسده في طريقه الى أن يخونه. الشاعر الذي لطالما احتفى بالكتابة وبالحياة، كان سبق له أن خسر كبده وخضع لزراعة كبد جديد، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في طقوسه وعاداته السابقة، وبدا أنه يفضّل الاستمتاع بحياة عريضة وخطرة على حياة اضطرارية تقدم له أياما خالية من الطعم القديم والرائحة السابقة المغرية.
بالنسبة إلى من يعرفون صاحب "أظلاف بيضاء"(1983)، وهي مجموعته الشعرية الأولى، كان إصراره على تذوق الحياة كاملة وبدون تجنبات، يشبه طريقته ومزاجه في الكتابة، فهو في قصائده أيضا يشبه نفسه، ويشبه إصغاءه إلى الكلمات وإلى المعاني التي يمكن أن تنشأ من تجاورها في سطر داخل قصيدة، وفي قصيدة داخل ديوان كامل.
قصيدة مفتوحة
والحقيقة أن واحدة من ميزات شعر زاهر الغافري أن قصيدته مفتوحة ومنفتحة على العالم وعلى الحواس وعلى التجربة الحارة والواقعية، ومتحررة أيضا من مستلزمات الشكل والمحتوى وطرق البناء التي باتت دارجة ومتوفرة في أغلب ما يُكتب من شعر اليوم ومنذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وهي اللحظة التي شهدت ما اتفق الكثيرون لاحقا على اعتباره "منعطف الحداثة الثانية" في الشعرية العربية. منعطفٌ منح اليد العليا للغة اليومية الممزوجة بالسرد والمتخلصة من البلاغة والصوت العالي والتهويم الدرامي والتفجع العاطفي. داخل هذا السياق، جاءت تجربة صاحب "عزلة تفيض عن الليل" (1993) من حواف المشهد وأطرافه، ولكنها لم تتأخر طويلا في الدخول إلى قلبه ومركزه، والمشاركة في صناعته وتطويره أيضا.
واحدة من ميزات شعر زاهر الغافري أن قصيدته مفتوحة ومنفتحة على العالم وعلى الحواس وعلى التجربة الحارة والواقعية
ولد زاهر الغافري سنة 1956 في قرية سرور في عُمان، وعاش طفولة فريدة في كنف أب كان يأخذه أحيانا في رحلاته التجارية بحرا إلى الهند والبصرة، وكان مكان الولادة والنشأة نفسه يقدم الى الصبي الصغير مساحات ثمينة للحواس والخيال في بيئة شبه بدائية مليئة بحكايات الصيادين والتجار في بحر عُمان والباحثين عن اللؤلؤ في مياه الخليج. وهي خبرة أولية ستظهر لاحقا في شغف الشاعر نفسه بالسفر وتغيير الأمكنة والعيش في بيئات متعددة. مزاجٌ ترحالي ستظهر ترجماته في الكتابة أيضا، حيث ستكون دواوين الشاعر أشبه بقفزات متنوعة ومتلاحقة بدلا من الاستمرار في الحفر في الموضع نفسه أو في المراوحة داخل قصيدة واحدة، وحيث ستُعيده الأمكنة الجديدة دوما إلى ماضيه الخاص وإلى أيامه وأمكنته الأولى، فتحمل أولى قصائد مجموعته الثانية "أزهار في بئر" (2000) عنوانا مثل "أعشاب الماضي"، بينما قصيدة أخرى تحمل عنوان "تلك الأعوام"، وحيث سيكتب في مطلع واحدة من قصائد الديوان نفسه: "في بلد بعيد/ أسمع مرثيّة عن نفسي/ كأنما القدر يعود إلى الوراء/ إلى أرض العواصف/ هناك حيث يترمّد العالم".
لم تكن قصيدة الغافري ابنة بيئة واحدة أو نتاج حاضنة واحدة. لقد ترحّلت قصيدته كما ترحّل هو جسديا بين مدن وبيئات وجغرافيات عديدة. من عُمان وهو لا يزال يافعا إلى العراق أولا وكان عمره ثلاثة عشر عاما، ثم إلى المغرب حيث درس الفلسفة في جامعة محمد الخامس، وحيث أقام فترة طويلة في طنجة المدينة الكوسموبوليتية المفتوحة على اللغات والثقافات والتجارب الفريدة، وباريس ونيويورك ومالمو في السويد. في غضون ذلك، كانت الحياة تمنحه فرصا مثالية لكي يحفّ مزاجه الشعري والحياتي بصداقات شعرية عديدة وقراءات كثيرة ومتنوعة، وأن يصغي إلى اختلاط الأزمنة وأساليب العيش، وأن يستدرج إلى قصائده مذاقاتٍ وتفاصيل وروائح من هذا الخليط الحيوي والمتنوع.
حياة ثرية
عاش الشاعر حياة ثرية تسرّب ثراؤها بطرق مختلفة إلى كتابته ونصوصه. ولعلّ ارتطامه الأول بما يمكن أن نسميه حداثة أو نمط حياة مختلفة عن نشأته وبيئته العمانية، بدأ في بغداد التي انتقل إليها للدراسة. هناك قرأ عن قرب شعراء مثل بدر شاكر السياب وحسين مردان وسعدي يوسف، واطلع على نقاشات حول الحداثة وقصيدة التفعيلة. قراءات ونقاشات أخذته بعيدا عن محاولاته الأولى لكتابة قصائد عمودية، قبل أن يتخلى لاحقا حتى عن الوزن والتفعيلة، وأن يقدم أوراقه الشخصية إلى شعرية النثر التي كانت قادمة بقوة وقتها، ليس في بغداد وحدها، بل في أمكنة وعواصم أخرى أهمها بيروت، حيث كانت بدأت بيانات "قصيدة النثر" وحيث بدأ تأثير الترجمات والنصوص التي تنشرها مجلة "شعر"، يصل إلى أسماء وتجارب شعرية شابة وجديدة وبعيدة آتية من الأطراف، وتحاول بقوة الانضمام إلى حيوية المركز وحداثته.
سرعان ما بدا أنه عثر لنفسه ولصوته الشعري على حيّز داخل المشهد الأكثر راهنيّة وحيوية للشعر
تجربة الغافري جاءت من هذا الهاجس، وسرعان ما بدا، من خلال صدور مجموعاته الشعرية، أنه عثر لنفسه ولصوته الشعري على حيّز داخل المشهد الأكثر راهنيّة وحيوية للشعر الذي راح يتصفّى ويسلك طرقا جانبية لدى بعض التجارب والأسماء التي جاءت في نهاية السبعينات وبدايات الثمانينات. ويمكننا في هذا السياق وضع تجربة زاهر الغافري إلى جوار تجارب بسام حجار وأمجد ناصر وزكريا محمد، وعلى تخوم تجارب أسبق قليلا كعباس بيضون وسركون بولص ووديع سعادة.
تجربة الغافري هي تجربة شاعر ابتعد بذكاء وموهبة عن فكرة كونه شاعرا عُمانيا أو خليجيا، وانضم الى قلب المشهد الشعري، من دون أن يتخلى طبعا عن مكونات مهمة من الهوية والبيئة القديمة لا يزال في استطاعتها أن تخدم خيال الشاعر وقصيدته، وتمدّه – في الوقت نفسه – بما يجعلها منتمية بقوة إلى جوار أوسع، وبما يمنحها أن تكون مختلفة عن هذا الجوار الواسع أيضا، وأن تحتفظ بمسافة ضرورية عنه. مسافة تجعل نبرته منتمية إلى سياق شعري حيوي كالذي ذكرناه، ولكنها متحررة ومُعفاة من التشابه الذي قد يفرضه السياق الواحد.
عوالم ووسائط
لقد وفّر هذا الانتماء الرجراج والكيفي إلى الجوار الشعري الجيد، فرصة الحضور داخل خط أو سياق جماعي مهم وغنيّ، ولكنه وفّر أيضا فرصة أن يمضي الشاعر في كتابة قصيدة خاصة ومرنة ومنفتحة على عوالم متعددة، ومستفيدة من وسائط متنوعة أيضا، ومنتمية – وهذا هو الأساس – إلى مزاج الشاعر ونبرته الشخصية التي تطورت عبر الاستئناس بما هو خافت وبما يتحرك تحت سطح الكلمات وفي ظلالها. في شعر الغافري هناك دوما محاولات لكبت جلبة عالية غير مُحبّبة، ولجم اندفاعات صاخبة وغير حميدة. هذا ما يتناهى إلينا ونحن نقرأ قصائده التي يبدو أنها تسعى إلى نوع من الصفاء الشعري. والصفاء المقصود هنا لا يعني خلوّ هذه القصائد من أثر الخامات والمكونات والتفاصيل التي تدخلت في إنجاز هذه القصائد، بل يعني أن الشاعر بذل ما في وسعه كي تحضر هذه المكونات بأقل ضجة ممكنة، وأن تذوب داخل الصور والاستعارات فيها.
ما كتبه صاحب "ظلال بلون المياه" (2006) هو "قصيدة شبّت في المنفى"، بحسب بيان جائزة مجلة "كيكا" التي مُنحت له سنة 2008، والطريف أن من كتب البيان وقتها كان أحد الشعراء الذي انتمى الغافري إلى سياقهم وجوارهم، وهو الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر.
هي قصيدة شبّت ونضجت في المنفى إذن. وإذا اخترنا أن نخفف الأثر القوي لمفردة "المنفى" سيكون في استطاعتنا أن نقول إن أغلب ما كتبه الغافري شبّ ونضج خارج بيئته الأولى، وفي أماكن اختارها طوعا، وعاش فيها بالنهم نفسه الذي وسم إقباله على الحياة والكتابة. الشعر كان رحلة للجسد والمخيلة معا. رحلة كتابة وحياة معا. رحلة قادت الشاعر إلى أن يجد كلماته تحت أحجار أخرى وبعيدة. أن يزيح الحجر وأن تتعافى قصيدته بالبرودة والانتعاش المدسوسين تحته.
شعر الغافري كان فيه دوما السعي إلى تخليص القصيدة من إشكاليات الشكل والبناء ومن خطر الوقوع في ما هو دارج
شعر زاهر الغافري كانت فيه دوما هذه النبرة الظليلة والمنعشة، وكان فيه دوما ذاك السعي إلى تخليص القصيدة من إشكاليات الشكل والبناء ومن خطر الوقوع في ما هو دارج بكثرة في "سوق الشعر". ويمكننا في هذا السياق أن نقتبس من شعره مقاطع كثيرة تُرينا كيف أن هذه القصيدة مبنيّة بشكل ذكي، ولكن هيكلها ينتهي غالبا بحواف غير مصقولة. والقصد هنا أنها مقفولة على نفسها ولكنها منفتحة على الخارج. أحيانا يكون هذا الانفتاح على شكل استعارات أو سطور تظهر كأنما فجأة لكسر البناء، ولكن وظيفتها الأهم أنها تضيء القصيدة بكاملها.
"لعلنا سنزداد جمالا بعد الموت"، كتب الشاعر في ديوانه الرابع، "كلما ظهر ملاك في القلعة" (2008)، وكان كتب من قبل في ديوانه الثاني "أزهار في بئر": "كنتُ ضيفَ العالم". وفي قصيدة أخرى في الديوان ذاته وصف نفسه بالزائر: "دعوني أمرّ/ أنا الزائر الغريب/ أحملُ فوق جناحيّ غبار الليالي/ وفي جوفي تسكنُ جمرةٌ/ هي شمس السنين الطويلة". بهذه الخفة المدهشة والثمينة كتب الغافري وعاش حياته الموزعة على أماكن عديدة، وها هو خفيفا كضيف وعابرا كزائر يغادرها أيضا.