لا يتعلّق الأمر حصرا برواية محمد زفزاف التي تحمل العنوان ذاته، وإنما بظاهرة مكرّسة ثقافيا وفنيا تستند إلى مجازية بيضة الديك هذه.
نعم، قد يبيض الديك، لكن على سبيل المجاز، وبيضته مفردة، غير مكررة وفق حدوثها المستحيل، غير معادة بحسب تحقق واقعتها الاستثنائية، كأثر لا مألوف، غرائبي أو سحري.
أولا: بيضة الديك التي تعني النبوغ في إنجاز عمل مُعجز تستحيل إعادة إنجازه مرة ثانية، من طريق المصادفة في الغالب.
ثانيا: بيضة الديك التي تعني بلوغ قيمة عالية من غير المستطاع تكرار الصعود إليها كرّة أخرى، وذلك عبر عمل شاق وتمرين طويل وتجربة قاسية وليس مصادفة. قيمة وإن حاولنا التنويع عليها بابتكار وإبداع أشياء من الجودة بمكان، نروم منها أن تضاهيها أو تتخطاها، لكن هيهات.
هناك كتّاب عُرفوا بعنوان واحد من بين ثراء رصيدهم الأدبي، وأمسى اسمهم ملازما لهذا العنوان الذهبي دون غيره من الإصدارات
يمكن أن نسبغ هذين المعنيين على حقل الكتابة، ولا نقصد هنا الكُتّاب الذين أنجزوا عملا أدبيّا واحدا عُرفوا به مثل خوان رولفو الشهير برواية "بيدرو بارامو " و"السهل المحترق" في القصة القصيرة، وسالنجر من خلال "الحارس في حقل الشوفان" في الرواية و"اليوم المرتجى لسمك الموز" في القصة القصيرة، وإميلي برونتي صاحبة رواية "مرتفعات وذرينغ"... ولهم في ذلك أسباب تتأرجح بين فلسفة الاكتفاء وبلاغة الاعتزال أو مضاعفات تسلط سياسي أو سوداوية العجز وعدم المقدرة وهلمّ مبررات، موضوعية كانت أو ذاتية... وهذا ما أفردنا له زاوية في "المجلة" آنفا تحت عنوان: "كُتّاب الرواية الواحدة".
إنما المقصود مَن راكمَ من الكُتّاب أعمالا روائية وقصصية وشعرية عديدة غير أنهم عُرفوا بعنوان واحد من بين ثراء رصيدهم الأدبي، وأمسى اسمهم ملازما لهذا العنوان الذهبي دون غيره من الإصدارات الأخرى. فهذا الطيب صالح ما أن يُذكر اسمه حتّى تعنّ في البال روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، ولا يكاد بندول ذاكرتنا يقف ملتفتا إلى رواياته الأخرى مثل "عرس الزين" وكذا قصصه القصيرة مثل مجموعة "دومة ود حامد"، الشيء نفسه عندما يرنّ معدن اسم محمد شكري ويصخب الصدى في المفكرة بروايته- السيرذاتية "الخبز الحافي" كأوّل ما يبزغ ويتألّق في الذهن، في حين تتراجع ظلال أعماله الأخرى هامشا مثل "زمن الأخطاء" و"السوق الداخلي" و"قصص "مجنون الورد" و"الخيمة"، وبالمثل حينما نصادف اسم محمد زفزاف فتبرق في نفق الذاكرة رواية "المرأة والوردة"، قد يزاحمها مكر روايته "الثعلب الذي يظهر ويختفي" لكن في حدود، وفي هذا المنحى نذكر "تلك الرائحة" عندما يتناهى إلى سمعنا اسم صنع الله إبراهيم، ورواية "رامة والتنين" في حالة إدوار الخراط، ورواية "وليمة لأعشاب البحر" في حالة حيدر حيدر، ربما يزاحمها ظل رواية "الزمن الموحش" بصورة من الصور، ولإبراهيم أصلان تحفل الذاكرة بروايته "مالك الحزين" دون الأخريات، و"الذاكرة الموشومة" لعبد الكبير الخطيبي، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، و"المتشائل" لإميل حبيبي، و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، قد يزاحمها نفير روايته الأخرى "السفينة" و"شرق المتوسّط" لعبد الرحمن منيف و"الجندب الحديدي" لسليم بركات... وهذا ما نلفي له نماذج مماثلة في المتون الأدبية العالمية، إذ تلازمنا رواية "الصخب والعنف" ما أن نذكر وليم فوكنر، و"الشيخ والبحر" ما أن نردد اسم همنغواي، و"ثلاثية نيويورك" ما أن نقابل اسم بول أوستر، و"مائة عام من العزلة" ما أن يصدح اسم غارثيا ماركيز، و"الحرب والسلم" إذا ما نُبس اسم تولستوي و"صحراء التتار" في حالة دينو بوزاتي و"الغريب" في حالة ألبر كامو، و"الجميلات النائمات" لياسوناري كاواباتا... وهكذا دواليك، سلة بيض الديوك مفتوحة على عشرات العناوين غائرة الصدى.
حريٌّ بكلّ عنوان يتصدّر سيرة مبدعه دون أعماله الأخرى، توسيمُه ببيضة الديك، وهو الشيء الذي لا يقع إلا مرّة واحدة، ولا يتكرّر أبدا كما هو ملمع إليه أعلاه، أو بصوغ آخر الشيء يكون مرّة واحدة لا ثانية لها والذي يعطي عطية لا يعود لمثلها وفق توصيف الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب".
بحسب الحكاية التراثية إذن، الديك لا يبيض إلا واحدة في مجمل حياته تمثلا للشيء اللامألوف الذي لا يتحقق إلا استثناء في تاريخ الأشياء المألوفة والاعتيادية، وفي إثر ذلك مضرب البيت الأثير لبشار بن برد:
قد زرتنا مرة في الدهر واحدة/ ثنّي ولا تجعليها بيضة الديك.
يلغي ألقُ عنوان أحاديّ بقية العناوين الأخرى على وفرتها وثرائها، وكأن المسألة شبيهة بالجزيرة العزلاء التي تخفي الأرخبيل
في المقابل هناك كتّاب راكموا العديد من العناوين الروائية والقصصية والشعرية، والمفارقة أن هذه الوفرة من الأعمال الأدبية رغم جودتها وأصالتها وحداثتها لم يستطع أي واحد منها أن يتفرد على حدة، ويبلغ شأو مقام "بيضة الديك"، لا ليحجب العناوين الأخرى بالضرورة، ولكن ليتمثل اسم الكاتب في ما يشبه متلازمة، أن نذكر هذا حينما يحضر ذاك عمليا، وهذا ليس نقيصة بالنسبة للكاتب الذي لم يتحقق له ذلك، في حين هو بمثابة ميزة أو فضيلة في المحصلة بالنسبة للكُتّاب الذين تحقق لهم الأمر، ومع ذلك، قد يشكل في الآن ذاته نقمة أو لعنة، إذ ماذا يعني أن يلغي ألقُ عنوان أحاديّ بقية العناوين الأخرى على وفرتها وثرائها، وكأن المسألة شبيهة بالجزيرة العزلاء التي تخفي الأرخبيل.