عندما يبدي علماء الآثار شغفا بالقيمة الاستثنائية لبعض المواقع الأثرية، وعندما يتحوّل شغفهم هذا إلى فن قائم بذاته، وإلى عنصر أساس على أجندة اهتمامات "يونسكو"، لا بد أن تكتسب تلك المواقع مكانة مميزة في التراث الانساني والعالمي. وليس من مثال يستدل عليه من حيث الأهمية، مثل موقع فنون الصخر في حائل بالمملكة العربية السعودية على الرغم من اكتشاف مواقع أخرى لفنون الصخر في العالم، إلا أن النقوش الصخرية الحائلية، الواقعة في مساحات جبلية مذهلة تمتد على أكثر من خمسين كيلومترا مربعا، حول حائل وبالتحديد في أم سنمان، وفي جبة، وجبل المنجور، وجبل راط، بالقرب من قرية الشويمس... تدعو إلى دراسات متجددة، خاصة أن الموقع يُعد أكبر متحف طبيعي مفتوح في العالم، والمَشاهد الفنية فيه متقنة للغاية، تُعبر عن عصر حجري باهر كان الانسان فيه يصقل الحجارة لمآربه، سلاحا وفنا وبناء، وليس عصرا متخلفا كما يعتقد البعض.
الموقع هو بلا شك استثمار معرفي ثريّ، فمن يصدق أنه منذ ثمانية آلاف سنة وأقل، كان المكان بحيرات وجداول ونباتات خضراء تزين أرضه، ويتساءل البعض أين إذن ذهبت تلك الوديان التي تجري مياهها عند هطول الأمطار الغزيرة لإرواء عطش الحيوانات والبشر والأزهار المورقة؟ فالموقع اليوم صحراء، ولا شيء غير الرمال بمنخفضاته الجافة والقاحلة، لتتبين من خلال هذا التناقض الصارخ، حال تحول البيئات، حيث تتغير أنماط الاستيطان البشري أمام تناقضات الأرض، ومن الطبيعي أن تكون هجراتهم وفق المناخ المتغير، وخاصة بالنسبة إلى غير المطلعين على التاريخ الجيولوجي والمناخي، وبالأخص في شبه الجزيرة العربية.
توثيق حياة الأسلاف
على أيّ حال، المرور بين الشيء وضده يقود الإنسان دائما إلى البحث، ولا بد أن تُدهشنا مفاجآت المسح الصخري في سلسلة تلك التلال والجبال غرب مدينة حائل بالمملكة، وتوثيق الأسلاف لحياتهم كاملة من خلال نقوشهم الواضحة والمميزة على جدران الصخور قبل اكتشاف الكتابة، وممارستهم الرسم بالكشط لتبيان طرق حياتهم العسكرية والفروسية، وتعابير الفرح، كالرقصات الفنية في المناسبات العاطفية والدينية، والأجمل توضيح أسلوب الصيد في تلك المياه المتدفقة... نقوش ممتدة على عشرات الكيلومترات تصف حياتهم وأملاكهم ونباتاتهم وجداول مياههم، وها نحن نستعيد ذلك كله من خلال تعابير تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ضمن مساحات هائلة يعدها الخبراء من أكبر مجمعات فن الصخر على الأرض التي تشرح حياة الأولين.