فنون الصخر في حائل... ثروة معرفية تقدم خريطة نادرة للإنسان والمكان

رابع موقع أثري سعودي ضمن قائمة التراث العالمي

The Permanent Delegation of the Kingdom of Saudi Arabia to UNESCO
The Permanent Delegation of the Kingdom of Saudi Arabia to UNESCO
منطقة حائل

فنون الصخر في حائل... ثروة معرفية تقدم خريطة نادرة للإنسان والمكان

عندما يبدي علماء الآثار شغفا بالقيمة الاستثنائية لبعض المواقع الأثرية، وعندما يتحوّل شغفهم هذا إلى فن قائم بذاته، وإلى عنصر أساس على أجندة اهتمامات "يونسكو"، لا بد أن تكتسب تلك المواقع مكانة مميزة في التراث الانساني والعالمي. وليس من مثال يستدل عليه من حيث الأهمية، مثل موقع فنون الصخر في حائل بالمملكة العربية السعودية على الرغم من اكتشاف مواقع أخرى لفنون الصخر في العالم، إلا أن النقوش الصخرية الحائلية، الواقعة في مساحات جبلية مذهلة تمتد على أكثر من خمسين كيلومترا مربعا، حول حائل وبالتحديد في أم سنمان، وفي جبة، وجبل المنجور، وجبل راط، بالقرب من قرية الشويمس... تدعو إلى دراسات متجددة، خاصة أن الموقع يُعد أكبر متحف طبيعي مفتوح في العالم، والمَشاهد الفنية فيه متقنة للغاية، تُعبر عن عصر حجري باهر كان الانسان فيه يصقل الحجارة لمآربه، سلاحا وفنا وبناء، وليس عصرا متخلفا كما يعتقد البعض.

الموقع هو بلا شك استثمار معرفي ثريّ، فمن يصدق أنه منذ ثمانية آلاف سنة وأقل، كان المكان بحيرات وجداول ونباتات خضراء تزين أرضه، ويتساءل البعض أين إذن ذهبت تلك الوديان التي تجري مياهها عند هطول الأمطار الغزيرة لإرواء عطش الحيوانات والبشر والأزهار المورقة؟ فالموقع اليوم صحراء، ولا شيء غير الرمال بمنخفضاته الجافة والقاحلة، لتتبين من خلال هذا التناقض الصارخ، حال تحول البيئات، حيث تتغير أنماط الاستيطان البشري أمام تناقضات الأرض، ومن الطبيعي أن تكون هجراتهم وفق المناخ المتغير، وخاصة بالنسبة إلى غير المطلعين على التاريخ الجيولوجي والمناخي، وبالأخص في شبه الجزيرة العربية.

توثيق حياة الأسلاف

على أيّ حال، المرور بين الشيء وضده يقود الإنسان دائما إلى البحث، ولا بد أن تُدهشنا مفاجآت المسح الصخري في سلسلة تلك التلال والجبال غرب مدينة حائل بالمملكة، وتوثيق الأسلاف لحياتهم كاملة من خلال نقوشهم الواضحة والمميزة على جدران الصخور قبل اكتشاف الكتابة، وممارستهم الرسم بالكشط لتبيان طرق حياتهم العسكرية والفروسية، وتعابير الفرح، كالرقصات الفنية في المناسبات العاطفية والدينية، والأجمل توضيح أسلوب الصيد في تلك المياه المتدفقة... نقوش ممتدة على عشرات الكيلومترات تصف حياتهم وأملاكهم ونباتاتهم وجداول مياههم، وها نحن نستعيد ذلك كله من خلال تعابير تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ضمن مساحات هائلة يعدها الخبراء من أكبر مجمعات فن الصخر على الأرض التي تشرح حياة الأولين.

يُعدّ الموقع أكبر متحف طبيعي مفتوح في العالم، والمَشاهد الفنية فيه متقنة للغاية، تُعبّر عن عصر حجري باهر

وحين أنظر إلى تلك النقوش الفنية المذهلة بصريا، أجدها عبقرية، ومن إبداع بشري نادر، فكلّ لوحة صخرية عبارة عن سجل مكتمل، ومفصّل على نحو استثنائيّ، فبغض النظر عن أنها كانت منطقة مياه عذبة فيها بحيرات ونباتات خضراء، فالنقوش التي رسمها الأسلاف حفرت بمطارق حجرية بسيطة. والأكثر إدهاشا هو كلاب السلوقي بالعشرات، التي ترافق الماشية والخيول، والشبيهة تماما بجنس الكلاب السلوقية في نيويورك اليوم، وهي من السلالة نفسها من حيث الشكل، حيث البطن الرشيق والذيل اللولبي، وتقدّم فنون الصخر في حائل أقدم تصوير للكلاب المستأنسة في العالم، مما يؤكد استخدام البشر المبكر للصيد.

The Permanent Delegation of the Kingdom of Saudi Arabia to UNESCO
نقوش أثرية في جبة بمنطقة حائل

ومن جهة أخرى، هناك كشط فني لبصمات يد الإنسان ومخالب الضباع والكلاب، كأنها عقود تجارية، أو حدود الملكية بين القبائل، ناهيك عن الرقصات الجماعية التي تشبه رقصات العرضة في حائل ونجد وتبوك، وما يمثل طريقة التمايل الجمعي للأداء، إلى نساء يرقصن بشعورهن المتطايرة مع رفع اليدين، وتطاير شعورهنّ، وكأنها صلوات استسقاء... هي حضارة مبكرة تجيب نقوشها عمّا نحن عليه اليوم من عادات فنية بعضها مستمر، على الرغم من تقلّبات المناخ والجفاف والتصحر واختفاء المياه.

النقوش الصخرية في جبة حائل

والأهم هو تسجيل الموقع في "يونسكو"، وهو رابع موقع سعودي في قائمة التراث العالمي بعد مدائن الحجر والدرعية وبوابة جدة التاريخية مع بوابة مكة، إلا أن منطقة فنون الصخر في حائل، بحاجة إلى دراسة أعمق، بل إلى دراسات فنية تاريخية من أجل ثقافتنا ومناهجنا وإعلامنا وأجيالنا، تتناول نقوشا تشكّل آلاف اللوحات، لوحات صخرية إن صح القول، منها أكثر من 1400 لوحة للكلاب، بوصفها منطقة رعوية.

ها نحن نستعيد ذلك كله من خلال تعابير تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ضمن مساحات هائلة يعدها الخبراء من أكبر مجمعات فن الصخر على الأرض

هي منطقة تستقطب الدراسة لرسم العلاقة التاريخية بين الإنسان والمكان، الإنسان المنذور بعلائقه الوجودية، لتبقى فنون الصخر في حائل عبارة عن سيرة إنسانية تنطوي على ذاكرة استرجاعية فرت من عين الزمن وترسم خريطة نادرة للإنسان والمكان، وتوفّر متحفا طبيعيا يشبهنا في ملامحه، ويساعدنا في استشراف ملهم، إن بحثنا فيه أكثر.  

font change

مقالات ذات صلة