ثم يدلل على صواب رأيه بعقد مقارنة بين نصين للشاعر الياباني باشو (1644 - 1694)، ونص مماثل للشاعر الغربي تينيسون (1809 - 1892).
فالشاعر الياباني باشو يقول:
حين أُمعن النظر
أرى "النازونا" مزهرة
على السياج، يا للروعة!
يوكو ميريبا،
كاكيني كانا.
تأويل سوزوكي لنص باشو السابق، ينطلق من عمق ثقافته الشرقية وفلسفتها عن مفهوم "صوفية الزن"، لذا يرى باشو وعند اقترابه من السياج، قد جذبت انتباهه نبتة برية (النازونا) وهي لا أهمية لها، والشاعر يصفها في قصيدته دون أن يعبر أبدا عن أي إحساس شعري خاص إلا في المقطعين الأخيرين وهما يدلان على علامة تعجب فحسب. الشاعر هنا يتصرف من وحي ثقافته التي تدخله في حالة توحّد مع هذه النبتة - كما حاله مع الطبيعة في مجملها - فيحس بكل نبضة تنبض في عروقها.
الباحث في "صوفية الزن" د.ت. سوزوكي
بعد هذه القراءة التأويلية لنص باشو، يورد نصا مشابها في موضوعه للشاعر الغربي تينيسون عندما يقول:
أيتها الزهرة على الجدار المتصدع!
إنني أقتلعك من الشقوق،
وأمسك بك ها هنا، جذرا وكلَّا، في يدي.
أيتها الزهرة الصغيرة! لو استطعت أن أفهم
ما أنت، جذرا وكلَّا، وكلَّا في كل،
لعرفت ما الله، وما الإنسان.
يرى سوزوكي أن الشاعرين كليهما لاحظ الزهرة، وأن شعورهما قد يكون متماثلا، أما الاختلاف فيكمن في أن باشو لا ينتزع الزهرة، بل يكتفي بالنظر إليها، ويستغرق في التفكير، ويشعر بأن ثمة شيئا يجول في فكره، لكنه لا يعبر عنه. ويترك لعلامة التعجب أن تقول كل ما يرغب بقوله، ذلك أنه لا يملك كلمات كي ينطق بها، فشعوره فياض وعميق، ولا رغبة لديه في أن يُمَفهِمَه.
ومن المفهوم الاخر، ينظر سوزوكي إلى الشاعر تينيسون على أنه فاعل وتحليلي، فهو أولا يقتلع الزهرة من المكان الذي تنمو فيه، ويفصلها عن الأرض التي تنتمي إليها. وبصورة تختلف تماما عن الشاعر الشرقي، فتينيسون لا يدع الزهرة وشأنها، لا بد أن يقتلعها من الجدار المتصدع "جذرا وكلَّا"، الأمر الذي يعني أن النبتة لا بد أن تموت. وهو لا يهتم لمصيرها، أما باشو فلا يمسّ "النازونا" ولو مسا، بل يكتفي بالنظر إليها وبإمعان، وهذا كل ما يفعله، فهو غير فاعل أبدا، وفي تعارض مع دينامية تينيسون. باشو لم يعد متفرجا هنا، وأن الزهرة قد أضحت واعية لذاتها، ومعبرة عن ذاتها بصمت وفصاحة، وهذا الصمت الفصيح، أو الفصاحة الصامتة من جانب الزهرة يتردد صداه على نحو إنساني في مقاطع باشو.
أما الشاعر الغربي فإنه فكر بأجمعه، ومطابق للذهنية الغربية، وهو من أتباع مذهب "اللغوس"، ولا بد أن يقول شيئا، لا بد أن يجرد تجربته الملموسة أو يُمفهمها، ولا بد أن يخرج من ميدان الشعور إلى ميدان الفكر، ويخضع العيش والشعور لسلسلة من التحليلات؛ ليرضي فضول الروح الغربية.
حقيقة الوجود
تقييم سوزوكي ونفيه لأي توجه ميتافيزيقي للعقلية الغربية، يقابله تنظير آخر قد ينصف العقل الغربي من عدم خلوه منها، وهو للباحث في الفلسفات الشرقية الياباني توشيهيكو إيزوتسو الذي عمل في كتابه "مفهوم الوجود وحقيقته" (ترجمة عيسى علي العاكوب، دار نينوى، 2019) تناظرا بين "وحدة الوجود" في الوجدان الشرقي، مقابل "وجودية" الغرب. فبالرغم من أنهما يشتركان في مفردة "وجود"، إلا أنهما يختلفان في المفهوم. فالفلسفات الشرقية لا تسعى لاستبطان مفهوم الوجود بوساطة الاستنتاج العقلي، بل فقط من خلال نوع خاص جدا من الحدس، ومن خلال اتحاد "العالِم بالمعلوم". أي معرفة الوجود ليس من الخارج بوصفه موضوعا للمعرفة، بل من الداخل، من خلال صيرورة الإنسان أو كونه "الوجود" نفسه، من خلال تحقيق الإنسان ذاته أو إمكاناته.
متحف دي تي سوزوكي
أما الوجودية الغربية المعاصرة، فهي فلسفة للإنسان "المُغرَّب"، إذ عملت التقنية على فرض عالم مُصنّع ألقى الإنسان في أتون عزلة لا علاج لها. وما نظام الحياة الذي أوجدته التقانة إلا فوضى، بمعنى أنه نظام واسع ومفصل من اللامعنى أو العبث. حيث يضطر الإنسان إلى أن يحيا في نظام آلي هائل منزوعة عنه الصفات الإنسانية، لا يفهم هو نفسه معناه، وينشئ تهديدا دائما لفرديته وشخصيته. وفي وضع كهذا يغدو الإنسان الحديث لزاما مُغرَّبا عن الطبيعة، وعن نفسه. ثم يضيف توشيهيكو، أن نوع "الوجود" الذي يؤلف الهم الرئيس للوجودي الحديث ليس هو الوجود عموما، بل هو وجوده الفردي الشخصي، لا شيء آخر.