تُبين السيرة السياسية للمرشحة الديمقراطية للرئاسة الأميركية كامالا هاريس، أنها تملك خبرات أقل من عادية في قضايا الشرق الأوسط، وتكاد تكون مقتصرة على زيارتين للمنطقة، في الأولى زارت قاعدة بلادها في العراق "قوات كاليفورنيا"، وتفقدت في الأردن مخيم الزعتري للاجئين السوريين. والثانية كانت لإسرائيل والتقت خلالها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وصرحت بعد عودتها إلى بلادها بأن "الروابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل غير قابلة للكسر"، إضافة إلى تصريحات بخصوص الملف النووي الإيراني عكست رؤية أوباما عقب انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، وموقفها عندما صوتت ضد صرف مساعدات عسكرية أميركية للمملكة العربية السعودية أثناء "عاصفة الحزم"!
انطلاقا من هنا، يطرح تواضع خبرات هاريس في شؤون الشرق الأوسط، إن لم نقل انعدامها، أسئلة مقلقة عن الاستراتيجية السياسية التي سوف تتبعها الإدارة الأميركية تجاه المنطقة، في حال فوز هاريس بالانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ومن خلال ترتيباتها الأولية، يبدو أن هاريس كانت مدركة لهذه الفجوة، فقررت منذ البداية العمل على ردمها، وعمدت مذ بدأ خبر ترشيحها يشيع في الأجواء، إلى طلب المشورة والنصيحة من فيليب غوردون، الدبلوماسي المخضرم الذي يملك علاقات متقدمة مع رؤساء وشخصيات في دول الشرق الأوسط، مضافا إليها خبرات متراكمة في شؤون المنطقة وحساسياتها، اكتسبها من خلال خدمته على امتداد عهدين رئاسيين، بيل كلينتون وباراك أوباما.
الخبراء المختصون في قضايا الشرق الأوسط في الإدارة الأميركية كثيرون، لكن غوردون يتفوق عليهم بنظرته الأكثر عمقا وتفصيلا، فهو ليس ديمقراطيا مؤدلجا بقدر ما هو خبير سياسي عابر للحزبية، ولأنه شخصية متزنة وهادئة يحظى بالاحترام من الديمقراطيين جميعهم بطبيعة الحال، ومن بعض الجمهوريين أيضا.
الجمهوريون بشكل عام، تستفزهم عودة غوردون، لأنه يوم كان منسق شؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما، ساعد في تشكيل إطار الاتفاق النووي مع إيران، خلافا لرؤيتهم
غير أن الجمهوريين بشكل عام، تستفزهم عودة غوردون، لأنه يوم كان منسق شؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما، ساعد في تشكيل إطار الاتفاق النووي مع إيران، خلافا لرؤيتهم، لذلك نراهم في هذه الأيام الانتخابية الصاخبة، يلعبون بورقة علاقة الصداقة التي تجمع غوردون مع روبرت مالي، لتخويف الناخبين من هاريس.
ومالي كما هو معروف، كان ممثل بايدن السابق للشؤون الإيرانية، وهو متهم بعلاقته الودية مع وزير الخارجية الإيرانية السابق محمد جواد ظريف، بتدبير وتأثير من موظفين أميركيين من أصل إيراني ضمن فريق عمله، الأمر الذي يعده الجمهوريون خرقا أمنيا إيرانيا للبيت الأبيض.
لم يخدم غوردون إلا مع الرؤساء الديمقراطيين، وقد خرج من الإدارة خلال سنوات رئاسة جورج دبليو بوش ودونالد ترمب، ثم عاد إليها مع بايدن. وأهم المبادئ التي أسسها خلال خدمته هي دعوته الدائمة إلى حل الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والوصول إلى سلام حقيقي بين العرب وإسرائيل، مع مراعاة وجود العنصر الفلسطيني، هذا عدا دعمه غير المشروط لسياسات أوباما تجاه إيران (غير النووية) وضرورة تمتين العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي.
قد يسبب افتقار هاريس إلى رؤية سياسية خاصة بالشرق الأوسط، محنة جديدة للمنطقة وشعوبها، تعيد إلى الأذهان مشهد الفوضى المتنقلة والحروب التي سببتها قرارات بوش الابن وترمب الاعتباطية
ورغم تخصصه في شؤون الشرق الأوسط، يُعلي غوردون من شأن العلاقة مع أوروبا، فهو معجب بالتجربة الأوروبية على كل المستويات، باشتراكيتها، واستعماريتها الثقافية، وعلاقاتها الرأسية مع الشعوب بمعزل عن الحكومات، وهي مهارات تفتقدها الولايات المتحدة، ويشكل هذا الإعجاب المعلن نقطة اطمئنان للأوروبيين الذين يبدو أنهم توجسوا من احتمال أن تقوم هاريس بدافع من أصولها العرقية بالاهتمام بآسيا على حساب أوروبا.
وقد يسبب افتقار هاريس إلى رؤية سياسية خاصة بالشرق الأوسط، محنة جديدة للمنطقة وشعوبها، تعيد إلى الأذهان مشهد الفوضى المتنقلة والحروب التي سببتها قرارات جورج بوش الابن ودونالد ترمب الاعتباطية، فضلا عن أنها سوف تواجه في حال فوزها أكثر القضايا اضطرابا في تاريخ المنطقة، وهي حرب غزة، التي باركتها إدارة رئيسها بايدن، حتى خرجت عن طوعها.
ومن المؤكد أن هاريس ستحتاج إلى أكثر من مستشار خاص للسياسة الخارجية، وستفعل ما يفعله الرئيس الأميركي، وتسمي فريقا كاملا من المستشارين الذين سوف يغطون المجالات العسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية، لكن لا أحد يعلم شيئا عن الرؤية التي ستعمل بها، وضمن أية آلية سوف تعين مستشاريها، وما هي المعايير التي ستعتمدها، كما أنه من الصعب أن نستخلص أية فكرة عن النهج الذي ستتبعه بخصوص منطقة الشرق الأوسط، لذلك، فإن الخبرة الراسخة والرصانة الدبلوماسية اللتين ميزتا عمل غوردون خلال وجوده في الإدارة الأميركية، تشيان بأنه سوف يكون مرشد هاريس الروحي في مجاهل الشرق الأوسط.