"ماتريوشكا الموساد"... والصراع مع إيران

الاختراقات تتجاوز مجرد أجهزة النداء والاتصال اللاسلكي

ناش ويراسكيرا/المجلة
ناش ويراسكيرا/المجلة

"ماتريوشكا الموساد"... والصراع مع إيران

نادرا ما تكون سلاسل التوريد والشركات الواجهة وأجهزة الاتصال مادة مشوقة لقصة تجسس. حتى وإن جرى استخدامها في الواقع، كما حدث على الأرجح ضمن سلسلة التفجيرات الأخيرة في لبنان، فإن معظم الاهتمام يتركز على الجوانب التقنية للهجوم، إن كان هجوما سيبرانيا أو بطارية محملة بالمتفجرات، أو أمرا آخر. ومع ذلك، فإن الهجوم المروّع الذي شهده لبنان في الأيام الأخيرة لا يثير الانتباه فقط بسبب تأثيره المدمّر، بل لأنه على ما يبدو تضمن "عناصر" مصممة بعناية لاستهداف خلل دائم في استراتيجية المشتريات الإيرانية.

ووفقا للتقييمات الأولية، يُرجح أن الهجوم نتج عن توزيع أجهزة اتصال مفخخة مسبقا عبر شركة واجهة كانت خاضعة لسيطرة أو اختراق الاستخبارات الإسرائيلية. وهذا التكتيك، الذي يقوم على ربط مكونات الهواتف الخلوية أو أجهزة الاتصال بالمتفجرات، لا يعتبر جديدا بالنسبة للموساد، الذي استخدمه في سبعينات القرن الماضي، حين استهدف فلسطينيا يُشتبه بتورطه في هجوم ميونيخ ضد الرياضيين الإسرائيليين باستخدام هاتف مفخخ. وفي التسعينات، استهدفت إسرائيل كبير صانعي القنابل في "حماس"، يحيى عياش، عبر هاتف خلوي مفخخ، ويُعتقد أنها لجأت إلى هذا الأسلوب عدة مرات منذ ذلك الحين. الجديد في هذا السياق ليس فقط نطاق الهجوم، بل إن ما قد يثير قلقا أكبر لـ"حزب الله" وحليفته إيران هو احتمال أن الاختراقات تتجاوز مجرد أجهزة النداء والاتصال اللاسلكي.

ولطالما روجت إيران لتقنيات الشراء الهجينة، التي تجمع بين المكونات المصنعة محليا والأجزاء المتاحة تجاريا. على سبيل المثال، فإن الطائرة المسيّرة "شاهد"، التي أصبحت روسيا تعتمد عليها بشكل يومي في استهداف أوكرانيا، استخدمتها إيران ضد إسرائيل في شهر أبريل/نيسان الماضي. وتعتبر "شاهد" أيضا واحدة من الأسلحة التي يستخدمها الحوثيون في اليمن، وتتألف من عدد من المكونات المتاحة التي يمكن، نظريا، لـ"أي شخص" أن يشتريها. فبعض المحركات جرى شراؤها من شركات أوروبية، أو تقليدها من قبل شركات صينية. كما أن بعض الإلكترونيات الحيوية جرى تصنيعها من قبل علامات تجارية أميركية رائدة. إلى جانب ذلك، تحتوي هذه الأنظمة الإيرانية على بعض المكونات غربية الصنع. وقد أظهرت اعتراضات الولايات المتحدة للشحنات الإيرانية المتجهة إلى الحوثيين أن إيران غالبا ما تشحن هذه الأنظمة على شكل أجزاء منفصلة، مما يمنح مرونة أكبر في كيفية حصول بعض المجموعات على أجزاء من تلك الأنظمة التي تزودها بها إيران.

وبطبيعة الحال، باعتبارها دولة تخضع لتدقيق دولي وعقوبات مشددة، اضطرت إيران وحلفاؤها مثل "حزب الله" إلى التكيف مع هذه الضغوط. حيث أنشأت إيران وحلفاؤها شبكة معقدة من الشركات الواجهة في دول مختلفة بهدف إخفاء الوجهة الحقيقية لبعض المنتجات، إلا أن الحكومات الغربية أصبحت على دراية بهذا التكتيك وبدأت تتتبع تلك الواجهات. ولكن، في لعبة القط والفأر هذه، تظل ساحة المواجهة غير متكافئة. إذ إن إنشاء شبكات من الشركات الواجهة يعد أسهل بكثير من تتبع تلك الشبكات وتفكيك الأدوات التي تنتهك العقوبات.

وقد أتاح هذا الوضع لإيران تحقيق نجاح كبير في تسليح وكلائها، بل وحتى نفسها، بأنظمة فعالة من حيث التكلفة والجدوى العسكرية، على الرغم من قصور صناعتها المحلية. وبالنسبة لدولة يقوم مبدؤها الاقتصادي المركزي على الاكتفاء الذاتي، فقد أصبحت إيران تعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا الغربية التي تحصل عليها من خلال شبكة متغيرة باستمرار من المشترين والشركات الواجهة.

أنشأت إيران وحلفاؤها شبكة معقدة من الشركات الواجهة في دول مختلفة بهدف إخفاء الوجهة الحقيقية لبعض المنتجات، إلا أن الحكومات الغربية أصبحت على دراية بهذا التكتيك وبدأت تتتبع تلك الواجهات

مهمة معقدة للغاية

لكن هناك مشكلة. فبينما تركز إيران وحلفاؤها على الحصول على المكونات والمنتجات الغربية والالتفاف على العقوبات الجديدة، فإنهم يصبحون أكثر عرضة للاختراقات الأمنية، كالتي شهدناها مؤخرا. حيث إن حماية سلاسل التوريد بشكل فعال مهمة معقدة للغاية، حتى بالنسبة للحكومات والشركات الكبرى التي لا تواجه حاجة للالتفاف على العقوبات. وهذا يشبه محاولة تتبع ما استهلكه الحيوان الذي تتناوله، وما استهلكته الحيوانات التي تغذى عليها. فكلما ازداد تعقيد السلاسل الغذائية، زاد خطر التسمم. والشركات متعددة الجنسيات، التي قد تتعرض لمحاولات محدودة لتخريب سلاسل التوريد، تنفق مبالغ ضخمة من المال والموارد لحماية نفسها من هذا التهديد. كما أن شركات الدفاع والحكومات باتت تشعر بقلق متزايد من أن يسعى خصم متحمس ليس فقط لتعطيل سلاسل التوريد الخاصة بها، بل لتخريبها أيضا.

والحال هذه، فإن إيران وشبكتها من الوكلاء معرضة بشكل خاص لهذه المخاطر. والجهات الفاعلة التي تركز بشكل كامل على التهرب من العقوبات قد تكون أقل حذرا فيما يتعلق بمصدر المنتجات الأساسية أو الجهات التي تتعامل معها. وفي عالم تندر فيه الخيارات بسبب العقوبات، لا يكون هناك مجال للانتقاء، ومن السهل أن تقع في الفخ عندما تعتقد أنك من يقوم بخداع العالم.

من يدري ما هو اسم آخر دمية في "سلسلة الماتريوشكا"؟ من الواضح أن النهاية قد تضم بائعين يتحدثون العبرية، وربما باعوا أكثر من مجرد أجهزة نداء لشبكات إيران الواسعة التي تعمل على اختراق العقوبات

هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها "الموساد" الإسرائيلي واجهات لتنفيذ عمليات معقدة. فـ"منتجع البحر الأحمر"، الذي استُخدم لتهريب اليهود الإثيوبيين من بلادهم، يُعد واحدا من أشهر الأمثلة، لكن هذا التكتيك جرى توظيفه عدة مرات على مر السنين. وربما ساعد هذا الأسلوب في توريد أجهزة النداء (البيجر) وأجهزة الاتصال اللاسلكية التي انفجرت هذا الأسبوع، وربما أيضا في تلبية شهية إيران للتكنولوجيا الغربية (المزودة بالمتفجرات). وقد تكون المكونات نفسها موجودة في الصواريخ أو الطائرات المسيّرة الإيرانية، سواء انتهت في أيدي "حزب الله" أو روسيا. مجرد احتمال أن يكون هذا الأمر صحيحا سيؤدي بلا شك إلى حملة محمومة، حيث ستبدأ إيران وحلفاؤها في التدقيق في واجهاتهم التجارية ومورديهم. أما أولئك الذين حصلوا على أسلحة إيرانية الصنع، أو يفكرون في شرائها، فقد يعيدون النظر الآن في مدى معرفتهم الحقيقية بما يشترونه.

وقد يفسر هذا جيدا كيف أن "حزب الله"، المعروف بتفاخره كمنظمة شديدة الحذر والتخفي، انتهى به المطاف بشراء آلاف أجهزة النداء وأجهزة الراديو المحمولة من مصادر تبين لاحقا أنها، على الأرجح، عميلة للاستخبارات الإسرائيلية. لقد علمنا بالفعل أن أجهزة النداء لم تُصنّع من قبل الشركة التايوانية التي وضعت عليها علامتها التجارية، بل مرت عبر أوروبا الوسطى.

وتشير التحقيقات إلى كيان مشبوه يُعرف باسم "بي إيه سي كونسالتينغ شركة ذات مسؤولية محدودة" (BAC Consulting Kft) كمنتج محتمل لهذه الأجهزة القاتلة، لكن وفقا للبوابة الإخبارية المجرية "تيليكس"، قد تكون "بي إيه سي كونسالتينغ" مجرد وسيط، فيما جرى الحصول على أجهزة النداء من شركة "نورتا غلوبال المحدودة" (Norta Global Ltd) التي تتخذ من صوفيا في بلغاريا مقرا لها. ومن جانبها، أفادت وكالة الأمن البلغارية لاحقا أن أجهزة النداء لم تمر عبر الأراضي البلغارية ولم تُصنّع في بلغاريا.

ومن يدري ما هو اسم آخر دمية في "سلسلة الماتريوشكا" هذه؟ من الواضح أن النهاية قد تضم بائعين يتحدثون العبرية، وربما باعوا أكثر من مجرد أجهزة نداء لشبكات إيران الواسعة التي تعمل على اختراق العقوبات.

font change

مقالات ذات صلة