من الواضح أنّ ثقل العمليات العسكرية الإسرائيلية انتقل من "الجنوب" إلى "الشمال"، وهذا ما أشار إليه الإسرائيليون بالانتقال إلى مرحلة جديدة من القتال ضد "حزب الله". لكن المهم ليس الحديث عن الانتقال إلى "المرحلة الجديدة" بل طبيعة هذه المرحلة وحدودها وضوابطها وما إذا كانت ستظل دون سقف الحرب الشاملة كتلك التي اندلعت بين الجانبين صيف عام 2006. أي ما إذا كانت هذه المرحلة الجديدة ستشمل تصعيدا في القصف والعمليات الأمنية من دون توسيع الجبهة توسيعا تاما.
في الواقع، أشرت التطورات الأيام الأخيرة منذ "هجوم البيجر" يوم الثلاثاء الماضي بأن الهدف الإسرائيلي ليس الحرب الشاملة وإن كانت تل أبيب تستعد لها وكذلك "حزب الله". لكن الهجوم الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت يمكن أن يقلب المعادلة ولاسيما أن "الضربة المحددة" استهدفت قياديا كبيرا في "الحزب"، هو إبراهيم عقيل، وعددا من معاونيه. وبالتالي مرّة جديدة سيكون موقف "حزب الله" من الردّ على هذا الهجوم حاسما في تحديد وجهة الجبهة.
وفي المقابل فإن السؤال الرئيس الذي يجب طرحه هنا لمحاولة "تقدير الموقف" ووضع احتمالات وسيناريوهات لتطورات الجبهة بين "الحزب" وإسرائيل، هو ما هي أهداف إسرائيل في هذه الجبهة؟ فطالما أن تل أبيب لم تعلن أن هدفها القضاء على "حزب الله" كما قالت عن "حماس" عشية إطلاق هجومها البري على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإنّ احتمال الحرب الشاملة يبقى خيارا من ضمن خيارات أخرى وليس الخيار الوحيد أو الحتمي.
لقد حققت إسرائيل وباعتراف "حزب الله" وأمينه العام حسن نصرالله ضربة مؤلمة وقوية وغير مسبوقة ضدّ "الحزب" من خلال تفجير أجهزة الاتصال يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. وهي ضربة لا شك رفعت من معنويات الجمهور الإسرائيلي ومكّنت الحكومة اليمينية والأجهزة الإسرائيلية من الاعتداد بإنجازاتها الأمنية وبتفوقها التكنولوجي. مع العلم أن هناك دائما أصواتا إسرائيلية تصف هذه "الإنجازات" بأنها تكتيكية وليست استراتيجية ما دامت لا تحسم الحرب ولا تحقق الأهداف الإسرائيلية الموضوعة لها. لكن في مطلق الأحوال فإن تراكم هذه "الإنجازات التكتيكية" له قيمة استراتيجية من حيث إضعاف الخصم وإرباكه وجعل خياراته العسكرية والسياسية محدودة أكثر.
تجاوزا لهذا السجال الإسرائيلي المتواصل منذ بدء الحرب، فإن تطورات الأيام القليلة الماضية ولاسيما ليلة القصف الإسرائيلي غير المسبوق على جنوب لبنان ليل الخميس-الجمعة وثم الهجوم في الضاحية الجنوبية لبيروت عصر يوم الجمعة توضح نسبيا حقيقة الأهداف الإسرائيلية من "المرحلة الجديدة" ضدّ "حزب الله".
لا بد من العودة أولا إلى خطاب "الأمين العام" مساء الخميس لارتباطه من حيث التوقيت بالقصف الإسرائيلي ليل الخميس-الجمعة وكأنه ردّ عليه. فمن الواضح أن نصرالله حاول تبريد "الموقف" على خلفية أنه لا يريد تحقيق أهداف إسرائيل التي تستدعيه للتصعيد والتي كان هجومها "اللئيم" يومي الثلاثاء والأربعاء في هذا السياق تحديدا. هو لم يقل ذلك صراحة لكي لا يرسل رسائل ضعف وتردد، لكنه قاله بين السطور، من خلال الحديث عن تعطيل الأهداف الإسرائيلية وفي مقدمتها الفصل بين جبهتي غزة وجنوب لبنان وعودة المستوطنين إلى شمال إسرائيل.
وهو ما يعني عمليا أن "حزب الله" "بلع" مرحليا هجوم أجهزة الاتصال من خلال الفصل بين الرد عليه والقتال الدائر على الجبهة، أي إن الردّ على هجوم أجهزة الاتصال لن يكون شبيها بالرد على اغتيال القيادي البارز في الحزب فؤاد شكر في أغسطس/آب الماضي. وبكلمات أخرى فإنّ ما يفهم من كلام نصرالله أن الرد على هجوم البيجر واللاسلكي لن يكون بالضرورة في سياق العمليات العسكرية الدائرة الآن، بل سيكون على الأرجح مفتوحاً زمنياً وجغرافياً وذا طبيعة أمنية داخل إسرائيل أو ضدّ أهداف إسرائيلية في الخارج. لكن الوضع يختلف مع الهجوم الأخير على معقل "حزب الله" في بيروت من حيث أنه مرتبط على نحو وثيق بقواعد الاشتباك "التقليدية" بين الطرفين والتي تشمل قصف مدن رئيسة في العمق الإسرائيلي مقابل قصف إسرائيل لأهداف في ضاحية العاصمة اللبنانية.