كثيرون هم الشعراء الذين يعيشون في الظل. يَنظمون الشعر ويكتبونه، ثم لا يأبهون بنشره. إلا أن البعض منهم يعمدون إلى إصدار دواوينهم عندما يتقدّمون في أعمارهم. وكأن الواحد منهم، إذ يفعل ذلك، إنما يقوم بتأدية مهمة تقاعسَ عن تأديتها في السابق. أو كأنه يقوم دفعة واحدة بما كان عليه القيام به على دفعات. أو كأنه يرغب، في ما تبقى له من العمر، في أن يُزيح عن كاهله عِبئا حمله طويلا. وفي مختلف الحالات، تقف وراء إقدام الشاعر المتقدم في السنّ على إصدار ديوان يحتوي على مجمل كتاباته، رغبة في توثيق ما جادت به قريحته، على سبيل الوفاء لتجاربه في الشعر والحياة.
نتحدث عن هذه الظاهرة، ظاهرة إصدار الدواوين في المراحل المتقدمة من العمر، في معزل عن القِيم الشعرية، أو الفنية، لهذه الدواوين. وغالبا ما تكون القيمة التسجيلية هي الوحيدة أو الطاغية. وفي أكثر الحالات، يكون أصحاب تلك الدواوين على دراية بحدود تجاربهم الفنية، فلا يَصدرون عن ادعاءات أو أوهام كبيرة. وفي معظم الأحيان، يبقى الواحد من هذه الإصدارات (المؤجلة) محصورا في نطاق ضيّق، لا يتجاوز حفنة من الأقارب والأصدقاء، يتوجّه إليهم الشاعر صاحب الإصدار.
ولكنّ حديثنا هذا يدفعنا إلى التأمل في قضية العلاقة بين الشعر والعمر.
هذه العلاقة بين الشعر والعمر تختلف من شاعر إلى آخَر، فليس هنالك ما يساعد على وضع مقياس عام
وهي علاقة لا يدري الشاعر مدى تحكّمه بها، بل لا يدري ما إذا كان له إسهام في نسْجها. هذه العلاقة بين الشعر والعمر تختلف من شاعر إلى آخَر، فليس هنالك ما يساعد على وضع مقياس عام. بكلمة أخرى، لا يمكننا أن نحدّد مرحلة عمْرية مؤاتية للإبداع الشعري أكثر من غيرها من المراحل. فهنالك من الشعراء من أبدعوا في سنّ مبكّرة. وهنالك من تأخروا في انتظار النضوج والتبلور. وهنالك من كانت بداياتهم باكرة، ثم راحوا ينضجون تدريجيا مع الوقت، مستفيدين من خصوصية كل مرحلة من مراحل العمر.
لو كان لنا أن نستأنس بأمثلة، لأمكننا أن نذكر في الحالة الأولى الشاعر الفرنسي رامبو، الذي كتب أشعاره كلها، تلك التي أحدثت تحولا بارزا في مسيرة الشعر الفرنسي، قبل بلوغه العشرين من العمر. ويقال إنه انقطع بعد ذلك عن كتابة الشعر، وكأنه انتهى من إنجاز مهمته الشعرية. هل نذكر هنا من شعرائنا العرب القدامى طرفة بن العبد، الذي فارق الحياة _ بحسب معظم الروايات _ في السادسة والعشرين؟ وهل نذكر أبا فراس الحمداني الذي لم يعش أكثر من خمسة وثلاثين عاما؟ هذا في ما يتعلق بالحالة الأولى من الحالات التي ذكرناها. والأمثلة في الحالتين الثانية والثالثة كثيرة جدا. ولا مجال هنا للانتقاء منها.
ربما يصح القول إن التجارب الشعرية الناجحة، في معظمها، هي التي تستطيع أن تحيا في سياق من التطور التصاعدي نحو المزيد من الخبرة والنضج، وذلك منذ البداية وحتى النهاية. وفي هذا السياق، تكتسب التجربة الشعرية من كل مرحلة من مراحل العمر نكهة أو نفحة خاصة. وليس لمرحلة معينة أن تكون أغنى أو أكثف أو أخصب من غيرها من المراحل، إلا تبعا للظروف الخاصة التي يحياها كل شاعر. فرُبّ شاعر يجد في عشريناته المرحلة الأكثر استجابة له في قول الشعر. ورُبّ شاعر آخَر يجد ذلك في ثلاثيناته. ورُبّ ثالث يجد ذلك في أربعيناته، أو خمسيناته... وهكذا. وكثيرا ما ينتبه شاعر معيّن إلى أنه بلغ في تطوره مرحلة من النضج تُتيح له أن ينظر بعين الناقد أو المراجع إلى ما أنتجه في المراحل السابقة، فيكون بذلك قد وقف على ما كان ينقصه في البدايات، وعلى ما اكتسبه بمرور الوقت. ولكن، ألا يمكننا القول إن الشعر ، إذ يتأثر بمراحل العمر وتطوّره، إنما يعمل في المقابل على التأثير فيه؟
الشعر، بما هو تبصّر وتصور وتجسيد فنيّ لأعمق الحقائق، يعمل على تحسين ظروف الحياة، وعلى تلطيف الإحساس بالزمن. وهذا الأمر ليس مقتصرا على الشعراء، أي على كتّاب الشعر، وإنما يعني جميع الأشخاص الذين يحبّون الشعر، ويقيمون علاقة به على نحو أو آخَر.
الشعر يأخذ من العمر ويعطيه. يأخذ منه تجارب الحياة، والرؤى، وآفاق التعبير المتجدد. وفي المقابل، يعطيه الرهافة واللطف، يصادقه، ليجعل القلق الذي يبثّه فيه شبيها بالأمان.
كثيرا ما ينتبه شاعر معيّن إلى أنه بلغ في تطوره مرحلة من النضج تُتيح له أن ينظر بعين الناقد أو المراجع إلى ما أنتجه في المراحل السابقة
يحدث أحيانا أن يعود الشاعر إلى قصائده التي كتبها على مدى أعوام أو عقود، يعيد قراءتها لسبب أو لآخَر، فإذا به يجد نفسه متعددا، متحولا من مرحلة إلى مرحلة، بل ربما من قصيدة إلى قصيدة. ينظر إلى وجهه في مرآة قصائده، فيرى وُجوها كثيرة يتوسم فيها ملامح تدلّ على التعاقب الأفقي من جهة، وعلى التجذر العمودي من جهة ثانية. وكأنما التعاقب والتجذر هما نتيجة التقاطع المستمر بين الشعر والزمن. فإذ يمعن الزمن في الاتجاه أفقيا، يقاطعه الشعر بالاتجاه عموديا. هكذا يتراءى للشاعر، وهو يعود إلى أشعاره قارئا، أن ما مَرّ من عمره هو أعمار عديدة. يتبين له أن الشعر جعله يحيا أكثر من الزمن الذي مَر، جعله يرى إلى نفسه متعددا متجددا ما بين عمر وآخَر.
إنها طبيعة الشعر، أو الفن بعامة، أن يعمل دائما على ابتكار أساليبه في مقاومة الزمن. كأنما الشعر، إذ يعمد إلى تكثيف الزمن عن طريق الإمساك بلحظات منه تأملا فيها أو احتفاء بها، إنما يعمل على الحد من جريان لا يرحم. إنها طبيعة الشعر: أن يعترض الزمن. يجده قليلا فيعمل على تكثيره، يجده قصيرا فيعمل على تطويله، يجده ضحلا فيعمل على تعميقه.
إنها مهمة الشعر، بل واحدة من مهماته: البحث المتواصل عن الذات. إنه إذن بحث متواصل عن الآخَر. وفي هذا البحث يلتقي الشعر مع غيره من الفنون أو العلوم، بل يلتقي مع كل أنواع التصرف والتفكير. وأكثر ما يلتقي مع الفلسفة التي هي كالشعر بحث في معنى الوجود. إن المواجهة مع الزمن هي في الشعر مكشوفة ومريرة وساطعة أكثر مما هي في أي حقل آخَر من حقول الثقافة. وذلك لأن "الذاتي" في الشعر هو الذي يتقدم على كل شيء، يتقدم على الموضوع والفكرة والغرض وغير ذلك. بينما في الفلسفة مثلا، يتقدم "الموضوعي" على "الذاتي"، بل يعمل على محوه أو تغييبه. في الشعر ينبثق الموضوعي (أو العام) من الذاتي (أو الخاص)، لا يتراءى إلا من خلاله، ولا يتوهج إلا بتوهجه.
الذات الشاعرة ليست ذاتا مفكِّرة، أو بالأحرى ليست مفكِّرة فقط. إنها أكثر من ذلك. والزمن في مواجهتها ليس مجرد فكرة أو مفهوم. إنه أكثر من ذلك. واللغة التي هي ساحة المواجهة أو نسيجها، ليست محايدة، وليست مجرد وسيلة. اللغة، التي هي غاية في ذاتها، تحتضن المواجهة بين الشاعر والزمن، فتنبض بما تتشكل منه هذه المواجهة من انفعالات ومشاعر وتصورات وأهوال وآلام وآمال... اللغة تحتضن المواجهة لتتضرج بدمائها.
قصائد الشاعر التي تتعاقب في ظهورها عبر مراحل من عمره، هي مواقع مشهودة للمواجهة بينه وبين الزمن
قصائد الشاعر التي تتعاقب في ظهورها عبر مراحل من عمره، هي مواقع مشهودة للمواجهة بينه وبين الزمن. إنها تجليات لهذه المواجهة، محطات لإيقاف الزمن أو لعرقلته. ولما كان الشاعر ينطلق من قصيدة إلى قصيدة، أو من مرحلة في مغامرته الشعرية إلى مرحلة، باندفاعة جديدة أو بطاقة جديدة أو برؤية جديدة، فإنه يشعر بقدرته على شرذمة الزمن، فيما هو عاجز عن إلحاق الهزيمة به. الشاعر يشرذم الزمن، فإذا بعمره يتجلى أعمارا عديدة، وإذا به يحيا في قصائده المتعاقبة ما بين عمر وآخَر.