"شطوب في المرآة" لدلال قنديل... جنوب لبنان قبل "التنظيم" وبعدهhttps://www.majalla.com/node/322304/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D8%B7%D9%88%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D9%84%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84-%D9%82%D9%86%D8%AF%D9%8A%D9%84-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D9%88%D8%A8%D8%B9%D8%AF%D9%87
تستعرض رواية "شطوب في المرآة"(دار الرافدين) للكاتبة والصحافية اللبنانية دلال قنديل تاريخ مجتمع جنوب لبنان الحديث عبر قرية مفترضة تدعى عين الجبل. فتغطي الحركات الاجتماعية والدينية هناك على مدى العقود الأخيرة، وتسرد التغيرات الاجتماعية التي شهدتها القرية، بالإضافة إلى تأثيرات الصراعات والحروب الطائفية في لبنان.
تُبنى شخصيات الرواية في سياق التاريخ اللبناني الجنوبي. فيمثل كل من الشخصيات الرئيسة مريم وعامر والشيخ خضر، تيارا مختلفا: مريم بروحانيتها، عامر بفكره الاشتراكي، والشيخ خضر بإشكالية الدين والسياسة. ويدور السرد حول الصراع بين هذه الشخصيات ضمن إطار الحياة الاجتماعية الكبرى في فترة زمنية بدأت في سبعينات القرن الماضي. يسعى كل منهم لإثبات معتقداته وأفكاره في القرية التي تعكس بدورها الصراع الأوسع في لبنان، بما فيه من توجهات سياسية متناقضة. يتناول السرد حياة الشخصيات باعتبارها كيانات تحمل ذوات تتوازى مع الصراع العام، وتخلق أبعادا داخلية وعاطفية خاصة بها. الصراع الأكبر لا يمحو معالم الشخصيات أو يحدّ من عمقها الإنساني، بل يفتح لها مسارا متناغما وقريبا من المعنى الإنساني الذي غالبا ما تُخفيه الحروب.
تبرز الرواية دور الصراعات الكبرى وتأثيرها على الفرد بوصفه إنسانا وروحا، دون أن تختزل إنسانية الأفراد وذواتهم التي تتجلى كحيوات صغرى خُلقت روائيا ضمن أحداث الرواية. النزاع بين المتدينين والتقدميين حول إدارة المدارس، بالتوازي مع نضال الجنوبيين لإيجاد دور سياسي وسلطوي في بيروت، التي تبدو بعيدة وغريبة عن الجنوب، يُشكّل جزءا من هذا الصراع.
الصراع الأكبر لا يمحو معالم الشخصيات أو يحدّ من عمقها الإنساني، بل يفتح لها مسارا متناغما وقريبا من المعنى الإنساني
كل هذا يحدث في بيت مريم، حيث تجسّد مريم بحد ذاتها عري الذوات المتصارعة، وتكون بؤرة العاطفة والجمال في القرية. فهناك يجتمع الشبان والعشاق والمغوون بجمال مريم وجلساتها، فهذه الشخصية تعكس التحول الذي شهده جنوب لبنان من الأمية إلى المعرفة عبر الحرب، ومن الفطرة إلى مآسي الوعي وصعوبة النضج. تُصور مريم شخصية محورية تعيش وحيدة في منزل ساحر يُعد تحفة القرية ومركز جذبها وأيضا الصراعات الخفية فيها. بيت مريم، المطل على الطرق والأماكن الحيوية، يرصد جميع التغيرات التي تمر بها القرية. مريم تحب الأستاذ الاشتراكي الذي يصارع الشيخ على تعليم النظريات العلمية التطورية للأولاد، ويحاول بناء مجتمع تقدمي خالٍ من أثر العقلية الدينية، بينما يتخذ المختار موقفا حياديا، مما يعكس حياد الدولة اللبنانية ومؤسساتها في الصراعات السياسية والاجتماعية. علاقة مريم بعامر تنتهي بإجهاض الطفل الذي حملت به من عامر الذي يتصارع مع الشيخ ويدخل في معارك بناء "التنظيم"، والذي بعد علاقة حب طويلة مع مريم صنعت أيامها، تركها وتزوج بفتاة أخرى.
يتزوج عامر من فتاة أخرى من القرية ويبتعد عن مريم، التي تمثل هنا غربة الروح عن فطرتها، وعن سياق الفقد الذي لا ينتهي، مما يدفع مريم إلى وصلٍ آخر عله تعويض عن الفقد العاطفي، فتحب شيخ القرية عدو عامر، الذي يتزوجها دون إشهار، وتفقده أيضا، فتعود غربة الروح إلى خواء جديد. إن كانت فقدت عامر مُحملة بشعور تفوقه وبمفارقة المعرفة والعلم وبفارق أهواء الحرب والإيديولوجيا، فإنها تفقد الشيخ جراء الحرب والأيديولوجيا والصراع داخل القرية على مقاربات المؤسسة الدينية التي أصبحت ميليشيا منظمة أكثر من كونها مؤسسة روحية.
في الرواية، يخرج الأبطال من القرية التي ولدوا فيها مهزومين في نهاية المطاف وفقا لأهواء خارجية وقرارات تنظيمية حزبية ميليشيوية، محلية وإقليمية. أما مريم فمصيرها القاسي هو مصير لبنان بشكل أو بآخر. ومصير كل رغباتها في الوصل بعد فقد الأم والأخوة، مريم الروح تخسر خسارات الذكور والرجال والساسة، تمسح أجسادهم وتحاول تخفيف تعبهم، لكن أحلام الرجال أكبر من الاكتفاء بوصلها. فتفقد الجميع دون أن يبقى أحدٌ، وحتى دون أن تُنجب طفلا يرث منها ويُكمل مشوارها. النهاية لمريم تنتقل إلى منحى آخر في مخيلة القرية، فستكون شهيدة إرث جميل للقرى والبشر، ثم حجا صوفيا للشيخ الهارب من التنظيمات الميليشيوية، ونصا آسرا وحزينا وكئيبا في مخيلة عامر.
يخرج الأبطال من القرية التي ولدوا فيها مهزومين وفقا لأهواء خارجية وقرارات تنظيمية حزبية ميليشيوية
تفكك الرواية صعوبات الانفصال بين الجنوب وبيروت العاصمة، فالرحلة بين المكانين، بين الهامش ومركز السلطة، بناء على سرديات تشمل العلاقة مع الرسائل الورقية وصعوبة وطول الوقت للوصول زمنيا بين المناطق، تجعل منهما مكانين متباعدين. وتعرض الرواية حوادث اغتيال المعلمين والنخب المتعلمة والمثقفة لإفراغ الساحة من الفاعلين، وكيف انهال الإسلاميون في الجنوب على النخب العلمانية قتلا وبطشا. فالرواية تعمل على السرد التاريخي ضمن إطار معاناة الشخصيات، كأن الروائية شاهد معهم وتدلو بصوتها من خلال انعكاساتهم ومخاوفهم، فيظهر حسين مروة دون ذكر اسمه، ومهدي عامل، ولم يُستثن الإمام موسى الصدر، فبداية الحركة الدينية معه لم تكن انطوائية ولا عبارة عن كانتون منعزل، حيث فعلت الكاتبة أدوار البحث عن الاعتراف لدى الجنوبيين من خلال صفحات متتالية عن موسى الصدر وعن تجربة التقدميين قبل وصول من تسميهم التنظيم، وأثر المجالس الشرعية على البنية اللبنانية. ما لا يكون في الرواية واضحا، تستخدمه الروائية كخفاء منظم، يراد منه إبراز مخيلة عن البلاد وانقسامها، رحلة الشخصيات الجنوبية إلى مركز البلاد الذي يتغير وفقا لتنظيمات الميليشيات والمتغيرات التي لا يعرفها إلا أصحاب السلاح.
بعد نهاية متتاليات الشخصيات رويا، تبدأ الكاتبة بإنشاء متتالية متأخرة من القصة نفسها وعن الشخصيات، مبرزة حكايا قصيرة وتفاصيل يومية ومشهدية عن سكان الجنوب، بدءا من جلسات السمر ليلا إلى صباح العاملين في الزراعة والأعمال الصناعية الصغيرة، تدفعها هذه الرغبة في بناء متتالية قصصية مكثفة عن المشهد الجنوبي وتغيراته، خاصة تلك الاجتماعية والسياسية، مع توالي التاريخ اللبناني.
يعكس أسلوب الرواية تشققات الوعي والهوية في مجتمع موسوم بالدم والكثير من الحب والتضحية
يقوم الصراع في الرواية إذن على وقائع تاريخية في إطار أدبي جمالي خاص، تكسر فيه الكاتبة البعد الواقعي البحثي بتعميق قليل للشخصيات نفسيا وبتعميق وصفي للتغيرات وفعل الإرادة والاختيار لكل شخصية، باستثناء مريم التي استفضات في الكلام عنها في متوالية سردية تتناول كل مرحلة مرت فيها وصولا إلى نهايتها. فالشخصيات لا تبدأ بمرتبة واحدة وصولا إلى النهاية، ومريم هي بمثابة ضمير الرواية والحياة اللبنانية. هي مكمن الضمير والخفاء والإهمال، مما يجعل منها شخصية لبنانية تفقد كل شيء في المجتمع حتى تفقد هي نفسها أمام المرض. الرواية تدور في فلك قوامه رفض الواقع، ورصد الذاكرة الشفهية هو رفض الناس للتغيرات وضعفهم أمام أصحاب السلاح. مع تجربة اللغة الروائية بوصفها مستوعبا روحيا لأحداث تاريخية واضحة.
تُبرز "شطوب في المرآة" التناقضات والتمزقات الداخلية لشخصياتها في مرآة واقع يتداخل فيه الشخصي بالعام، حيث يصبح كل بيت، وكل علاقة، ساحة مواجهة بين الانتماء والاستعداد للاغتراب. الرواية لا تقدم لنا سردا تقليديا، بل يعكس أسلوبها الخاص تشققات الوعي والهوية في مجتمع موسوم بالدم والكثير من الحب والتضحية. تتلاعب دلال قنديل بخيوط السرد ببراعة، وترسم لنا شخصيات تموت دون أن تُنسى، وحكايات لا تكتمل، لتُبقي القارئ في حالة من التأمل المستمر في مصير هذه الأرواح، التي تنتهي عبر الرواية إلى معنى روحي، يحاول فيه المجتمع الجديد البحث عن الغفران والصمت عن المصير الجماعي.