جيني إربنبيك الحائزة "بوكر" لـ"المجلة": التاريخ الألماني حافل بالخسائر والقسوة والكراهية

مواجهة تعقيدات الماضي سبيلا لفهم الواقع

AFP
AFP
الكاتبة جيني إربنبيك

جيني إربنبيك الحائزة "بوكر" لـ"المجلة": التاريخ الألماني حافل بالخسائر والقسوة والكراهية

"الأدب يعيد الحياة إلى التجربة ويعتمد على المتعة الأبدية للفضول"، تقول الكاتبة جيني إربنبيك المولودة في برلين الشرقية في 1967 والتي نالت عن روايتها الأخيرة "كايروس" جائزة بوكر الدولية لهذا العام وهي أول كاتبة ألمانية تحصل على هذه الجائزة المرموقة.

إربنبيك، ابنة الفيزيائي والفيلسوف والكاتب جون إربنبيك والمترجمة دوريس كيلياس. جدّاها لوالدها هما المؤلفان فريتز إربنبيك وهيدا زينر. درست المسرح وعملت مخرجة في عدة دور الأوبرا في ألمانيا والنمسا. وفي تسعينات القرن الماضي امتهنت إربنبيك الكتابة بالإضافة إلى الإخراج.

نالت أعمالها تقديرا نقديا كبيرا كما حصلت على العديد من الجوائز مثل جائزة "هانز فالادا" وجائزة "لاستريغا" كما دخلت روايتها "نهاية الأيام" ضمن القائمة القصيرة لجائزة دبلن الأدبية عام 2016. ترجمت أعمالها إلى لغات عدة من بينها الإنكليزية والفنلندية والكورية والعربية. هنا حوار "المجلة" معها.

يبدو أن رواية "كايروس" تتحدث في ظاهرها عن علاقة حب بين شابة ورجل تجاوز الخمسين من عمره، لكنها في الواقع رواية ترصد التحول الاجتماعي والسياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية بعد سقوط جدار برلين في أواخر ثمانينات القرن العشرين. ما رأيك؟

أعتقد أن كلا الجانبين متشابكان ويسمحان لنا بالتأمل في بعض أوجه التشابه، حيث أن الحياة الخاصة والسياسية تعبران عن السلوك والعلاقات الاجتماعية. لكن كلا منهما أكثر من مجرد توضيح للآخر. فكلّ منهما يطرح أسئلة على الآخر ويجيب عن تلك الأسئلة أيضا.

غالبا ما تكون الأحكام المسبقة وسيلة لإضفاء الشرعية على أخطائك

  • ترين أن ألمانيا الشرقية كثيرا ما تتعرض للازدراء والاستخفاف من جانب الألمان الغربيين، حتى في مجال السينما. هل كان هذا الاعتقاد مصدر إلهام لكتابة رواية  "كايروس"؟

ظن الغربيون أنهم هم من قبلوا ضم الشرق إلى دولتهم بصدر رحب. باعوا الشركات التي كانت مملوكة للشعب في الشرق بثمن بخس للغاية إلى شركات ألمانية غربية خاصة، حتى أنه بعد فترة وجيزة  أغلق 80٪ من مصانع ألمانيا الشرقية. واستبدلت النخبة الثقافية والفكرية الشرقية بالغربيين. هناك ملايين فقدوا وظائفهم في غضون عامين فقط. في الوقت نفسه، لم يكن هناك أي حديث تقريبا عن إنجازات الشرق مثل رعاية الأطفال، والتي مكنت النساء من عيش حياة مستقلة، أو الإسكان بأسعار معقولة أو النظام الصحي. كانت الحرية السياسية المكتسبة حديثا في المقام الأول نتيجة لتمكين الشرقي الذاتي، وليس هدية من الغرب. لكن وسائل الإعلام الغربية تحدثت بشكل رئيس عن ظلم النظام الألماني الشرقي والاقتصاد الفاسد.  غالبا ما تكون الأحكام المسبقة وسيلة لإضفاء الشرعية على أخطائك. ومن المفيد أن ننظر إلى الأشياء بعناية أكبر، وأن نميز أكثر قليلا، وأن نولي المزيد من الاهتمام للواقع الملموس. كيف يكون ما يسمّى "التاريخ الكبير"  في حياة شخص ما؟ ما الخسائر والإنجازات الملموسة؟ حتى لو نظرت إلى بطلي الرواية هانز وكاترينا باعتبارهما شخصين من جيلين مختلفين، يمكن رؤية كيف يتعاملان بشكل مختلف مع التغيير الكبير بعد التوحيد. الأدب يعيد الحياة إلى التجربة ويعتمد على المتعة الأبدية للفضول.

•        انهار جدار برلين وأنت نائمة، هل تشعرين أن الوطن الذي تعرفينه سُرق منك؟

كلا، كان التغيير ضروريا. وإن كان مختلفا عما توقعه الألمان الشرقيون في البداية.  ولا تزال عملية التحول في نصفي البلاد مستمرة. وفي البداية بدا الأمر أحادي الاتجاه، ولكنه لم يكن كذلك في الحقيقة.

تاريخ وهوية

•  غالبا ما تناقشين في أعمالك الأدبية تعقيدات التاريخ والهوية الألمانيين. ما الذي يجذبك إلى هذه الموضوعات؟

إن التاريخ الألماني المضطرب خلال المائة عام الماضية يعلمنا درسا عن التحول بشكل عام. فالنظام يتحول إلى نظام آخر، ولكنك لا تستطيع أن تخلق أشخاصا جددا. فالناس يحملون معهم الأعباء العقلية وسير حيواتهم السابقة. ويحتفظون بهوياتهم جزئيا ويصبحون أشخاصا جددا جزئيا أيضا. التاريخ الألماني حافل بالخسائر المريرة والقسوة والتلاعب والكراهية، فضلا عن الآمال العظيمة والبدايات. والأمل وفشل الأمل ـ وكيف يتعامل الناس مع هذا الفشل ـ هي الأمور التي تثير اهتمامي أكثر من غيرها.

اللغة شكل من أشكال الموسيقى، فعندما تقرأ، تستمع إلى صوت الكلمات وإيقاع اللغة

  • في روايتك "نهاية الأيام" استخدمت أسلوبا سرديا معقدا لسرد قصة عائلة على امتداد ثلاثة أجيال، ومن خلال هذه القصة سردت التحولات السياسية.  حدثينا المزيد عن هذا...

كان دافعي إلى الكتابة عددا من الأسئلة مثل: كيف يشعر الشخص عندما يموت فجأة؟ ما الذي كان مهما في حياته؟ ما الشكل الذي يتخذه اللقاء بالمصادفة؟ من الذي يحزن على المتوفى، إن كان هناك أيّ شخص على الإطلاق؟ ما قيمة الحياة؟ وهل تتغير هذه القيمة على مدار حياة الإنسان؟ لذلك، جاءتني فكرة كتابة شخصية تموت خمس مرات، وتعود إلى الحياة أربع مرات، حتى النهاية. بعض الأشياء التي تبدو ذات أهمية كبيرة في البداية، تتلاشى بعد بضع سنوات، ثم تعود مرة أخرى في النهاية.  أو ربما لا يحدث ذلك. وقد يكتسب تفصيل صغير  أهمية على مدار حياتها، لكن القارئ وحده يمكنه تتبع مسارها عبر النسخ المختلفة من سيرتها الذاتية. إنها طفلة أولا، ثم امرأة شابة محبة، ثم ضحية سياسية في الأربعين من عمرها، وهي مشهورة في سنواتها الأخيرة، وفي النهاية هي مجرد امرأة عجوز، نسيها الجميع تقريبا باستثناء ابنها. نراها بكل إمكاناتها من أجل الحب، وتمكين الذات الأنثوية، والضياع، والمجد، واليأس.

أزمة اللاجئين

•  تتناول روايتك "وطن محمول" أزمة اللاجئين في أوروبا. ما الذي دفعك للكتابة حول هذا الموضوع؟

كان أول حادث وقع في عام 2013 عندما انقلب قارب يحمل لاجئين في البحر الأبيض المتوسط ولقي 400 شخص حتفهم. كانت تلك اللحظة التي اعتقدت فيها أنه حان الوقت لبدء الحديث مع هؤلاء اللاجئين، الذين كانوا يعيشون بالفعل على أطراف مجتمعاتنا بحلول ذلك الوقت، والذين نجوا من رحلتهم ولم يصلوا بعد إلى الحياة الجديدة. اعتقدت أنه حان الوقت لربط العالمين، على الأقل في الأدب. لذلك أجريت مقابلات مع بعض اللاجئين حول من هم، بل وأكثر من ذلك حول من كانوا قبل مغادرتهم بلدانهم. أخبروني عن بلدانهم، ووظائفهم في الوطن، وعائلاتهم، وأصدقائهم ومنازلهم. عن كل ما فقدوه. وفي الوقت نفسه، انخرطت أيضا في ظروفهم الصعبة في ألمانيا. كنت أرافقهم إلى المكاتب الحكومية وزيارات المحامين والتظاهرات. أثناء بحثي تبين أن عالمي الخاص هو أغرب شيء. إذا أجبرنا الناس على البقاء غير مرئيين، فهذا يحكي قصة عنا أيضا، ويعكس خوفنا من مواجهة أنفسنا، من خلال رؤية هؤلاء الأشخاص المحاصرين في هاوية الانتظار.

AFP
الكاتبة جيني إربنبيك

•  كيف أثّر انتماؤك إلى عائلة متعلمة على وعيك وكتابتك؟

أكتب في الجيل الثالث، كان جداي مؤلفين، ووالدي أيضا. كانت والدتي مترجمة أدبية من اللغة العربية. منذ سن مبكرة كنت مهووسة بالقراءة، ولحسن الحظ أني كنت محاطة برفوف الكتب، وكنت أحصل على توصيات بالقراءة من والدي. كانت هناك أحاديث لا حصر لها حول الأدب والفن على طاولة المطبخ وفي مكان ما في الخلفية دائما صوت آلة كاتبة عذب. لكن هذا كان أيضا السبب الذي جعلني كشابة بالغة أجرب شيئا آخر أولا. فدرست الموسيقى وأصبحت مديرة لدار الأوبرا، ولم أبدأ في استكشاف الكتابة إلا عندما بلغت الثلاثين من عمري، وهو ما شعرت به مألوفا وجديدا ومثيرا في الوقت نفسه.

تأثيرات

•  هل تأثرت بأيّ من الكتاب العرب بما أن والدتك، دوريس كيلياس، المترجمة المعروفة؟

بالطبع قرأت العديد من الروايات والقصص العربية ، مثل روايات نجيب محفوظ على سبيل المثل وجمال الغيطاني، وغيرهما.  لا أستطيع القول إنهم أثّروا في كتاباتي بشكل مباشر، لكنهم جعلوا من العالم الغريب جزءا من عالمي الخاص، كما ينبغي أن يكون الحال مع كل الأدب الجيد.

•        هل تعتقدين أن خلفيتك في دراسة المسرح والإخراج في الأوبرا أثرت على أسلوبك السردي وبنيته؟

أعتقد أن الموسيقى كانت في ذهني قبل ذلك.  تعلمت طفلةً، العزف على البيانو وكنت أغني في جوقة. لذا كانت الموسيقى موجودة في داخلي دائما. لذلك أعتبر اللغة شكلا من أشكال الموسيقى أيضا.  فعندما تقرأ، تستمع إلى صوت الكلمات، وإيقاع اللغة، وستشعر بما إذا كان النص يتسارع أو يتباطأ، وستشعر بذلك كما تشعر بالموسيقى.

هناك كتاب عرب جعلوا  من العالم الغريب جزءا من عالمي الخاص، كما ينبغي أن يكون الحال مع كل الأدب الجيد

  • لا تعتمدين على نوع واحد من الكتابة الإبداعية، تنوعت إصداراتك بين القصص القصيرة والروايات القصيرة والطويلة، حدثينا  أكثر عن مرحلة كتابة أعمالك.

كانت قصتي الأولى عبارة عن رواية قصيرة. ثم طُلب مني كتابة قصص قصيرة لهذه المناسبة أو تلك. يمكن أن اقول إني تعلمت من خلال الممارسة. جمعت مع ناشري القصص القصيرة في كتاب، وأصبح الكتاب الثاني من إصداراتي. وخلال كتبي الثلاثة الأولى كنت لا أزال أخرج عروض الأوبرا في النمسا وألمانيا. وعندما بدأ ابنى في الذهاب إلى المدرسة، كنت محظوظة للغاية لأنني صرت أكسب عيشي من خلال الكتابة فقط. ومنذ تلك اللحظة، اختلف تركيزي. فقد تمكنت من استكشاف المواضيع بطريقة أكثر تعقيدا، وأصبحت الكتب أكبر. وفي بعض الأحيان كنت أكتب مسرحية أو نصا أوبراليا، للحفاظ على ارتباطي بالموسيقى والمسرح. كل نوع أدبي له متطلباته الخاصة، وأنا أحبّ التحدي في التعامل معها بطرق لا أعرفها بعد. على سبيل المثل، بينما كنت أتردّد في البداية في كتابة الحوارات، اكتشفت أنني أستمتع بها كثيرا عند كتابة المسرحيات. لذا فإن ممارسة أنواع مختلفة من الكتابة كانت مفيدة لي.

font change

مقالات ذات صلة