لعل من أسوأ ما ستتركه الضربة الإسرائيلية الأخيرة هو تصاعد الشعور بعدم القدرة على الإحاطة بالواقع. والاغتراب عما يجري في الأماكن الأكثر التصاقا بحياة اللبنانيين اليومية التي تزداد بؤسا يوما بعد آخر.
التكنولوجيا المتطورة التي وجهت بها الأجهزة الإسرائيلية ضربتها إلى عناصر "حزب الله" بتفجير أجهزة اتصالهم "البيجر" التي ظنوا أن فيها الأمان من اختراق محقق لهواتفهم المحمولة، ليس مما يسهل فهمه بالنسبة للمتابعين ناهيك عن المواطنين العاديين. وبغض النظر عن التفاصيل التقنية لكيفية سيطرة إسرائيل على آلاف أجهزة الاتصال في لبنان وسوريا وتفجيرها، وسواء كانت هذه أجهزة جديدة وصلت قبل أيام على ما ذهبت وسائل إعلام أميركية، أو قديمة تمكن الإسرائيليون من ابتكار طريقة لتفجيرها عبر شحن بطارياتها، كما أفتى آخرون، فإن الأمر يرفع سدا عاليا بين ما يريد كثير من اللبنانيين وما يُفرض عليهم عيشه ومكابدته. وليس كشفا القول إن من بين من سقطوا في التفجيرات، أبرياء.
جنون العظمة الذي يعاني منه مسؤولو "حزب الله" ويتحمل اللبنانيون تبعاته، والاستعلاء على من يجرؤ على السؤال عما ستعود به هذه الحرب التي ورط الحزب البلد فيها، واتهامه بالخيانة والاستسلام وإشاعة اليأس، لم يعد مما يمكن تجاوزه بذريعة "الهدف الكبير" الذي ينبغي حشد الطاقات لتحقيقه. ذلك أن ما من طاقات بقيت عند اللبنانيين لحشدها في معركة يبدو أنها تتخذ كل يوم شكل الفضيحة المدوية في وجه عنجهية "الحزب" ورطانته التي لم تعد تقنع غير الخاصة من عناصره. أما "الهدف" فيتضاعف غموضه واستعصاء فهم خريطة الطريق إليه، بعدما مرت في الرقة ودير الزور والزبداني وصنعاء...
وأن يصاب أكثر من 2800 "مجاهد" في أقل من ساعة، أمر قد يستدعي من المهتمين بالعمليات الأمنية متابعة دقيقة وتفصيلية، لكن ما الذي تعنيه هذه الواقعة للمواطنين المقيمين في مناطق سيطرة الحزب أو تلك القريبة منها؟ وماذا ستترك من آثار على السكان الذين يريدون– ربما– الحرية لفلسطين، لكنهم يفضلون عليها حياة أطفالهم؟ وهي مفاضلة لا يجب أن تكون موضع تساؤل أخلاقي.
لا مفر من القول إن تفجير أجهزة الاتصال على هذا النطاق الواسع وإيقاع الأعداد الكبيرة من عناصر "الحزب" وبعض الدبلوماسيين الإيرانيين، (والمدنيين بطبيعة الحال)، نذير شؤم بما ستحمله الحرب المقبلة على لبنان. والاختراق الأمني الهائل الذي تستفيد إسرائيل منه منذ الأيام الأولى للقتال في الجنوب، سواء عبر اصطياد مئات من عناصر "حزب الله" أو اغتيال مسؤوله العسكري فؤاد شكر وصولا إلى اقتحام مقر مركز الأبحاث العلمية الذي يديره "الحزب" في بلدة مصياف السورية وتفجيره، لا يعني فقط أن الاختراق الإسرائيلي ممتد إلى نواح قد تكون غائبة حتى الآن عن أذهان مخططي "حزب الله" وقادته العسكريين والأمنيين، بل أيضا سيكون نوعا جديدا من الحرب التي لم ير اللبنانيون مثيلا لها في جولات القتال السابقة.
تفجير أجهزة الاتصال على هذا النطاق الواسع وإيقاع الأعداد الكبيرة من عناصر "الحزب" وبعض الدبلوماسيين الإيرانيين، (والمدنيين بطبيعة الحال)، نذير شؤم لما ستحمله الحرب المقبلة
هذه الوقائع معطوفة على التهديدات التي أطلقها مسؤول في "الحزب" قبل أيام باغتيال أي رئيس منتخب للجمهورية ما لم يكن حائزا على موافقة "حزب الله"، تعطي صورة قاتمة عما ينتظر البلد الذي تتضافر فيه عوامل خرابه الداخلي مع دماره من الخارج على أيدي أعداء لا تنقصهم الوحشية. فالخواء السياسي الذي يخنق أي محاولة للخروج من أزمات لبنان المزمنة، لن يُرفع إلا بما يتوافق مع الوجهة التي يريدها "الحزب" وهي وجهة لا تفضي- بدورها- إلا إلى المزيد من الخراب في كل مجالات الحياة. دائرة مغلقة من التدمير الذي يجلب تدميرا.
وقياسا على التجارب السابقة خصوصا حرب يوليو/تموز 2006 التي اندفع "الحزب" بعدها إلى إعلان سيطرته على الدولة اللبنانية واجتياح العاصمة بيروت، فالأرجح أن تنتهي أي حرب إسرائيلية على لبنان بالمزيد من إمساك "حزب الله" بالمجتمع والسلطة والدولة وأن توأد إلى مستقبل بعيد كل المساعي الرامية إلى إنتاج صيغة قابلة للحياة من لبنان الذي يدور منذ أعوام بسرعة تصعب على الإدراك وتقذف نتائج عصية على الفهم.
وما يجعل المأساة مكتملة الأركان هو أنها تجري دون مشاهدين أو متعاطفين أو مستعدين للتدخل لإنقاذ الأبرياء.