سيبقى التجريب موضوعا للتداول ولن يفقد انتشاره مع مرور الزمن. وهو مثل كل الأمور في الحياة: يتغيّر ويتطوّر يتوهّج ويعيد تشكيل نفسه، وفقا لزمن يعيشه ولمجتمع يتعامل مع أفراده ولثقافة يستوعبها ولعِلم يستغله، ولأفكار تتداول على خشبته، تماما كوجودنا الجسدي، فهو الآخر يتغيّر ويتبدّل. فهناك مَنْ يكرّسون أنفسهم للماضي بل يحتفلون به، وآخرون يفكّرون ويتأملون ويدفعونه إلى التطوّر بحثا عن طرق جديدة لتكوينه، ويعانون في كل عصر من السخرية والتشكيك بهم، واعتبارهم أكباش فداء ثمّ معاقبتهم بنفي ورفض أفكارهم ونبذهم، وكل ذلك بسبب مخيّلتهم.
فعندما ظهر الراديو قيل "انتهى المسرح"، وعندما طلع التلفزيون قيل: "انتهى المسرح"، واليوم، مع انتشار أدوات المواقع الإلكترونية، قيل "انتهى الشعر"، وكذلك "اللغة" والرواية، وحتى الأدب. على الرغم من ذلك، استمرت كل هذه الفنون والكتابات.
فالمسرح التجريبي، بمفهومه العميق والشامل، وبأنواعه ومدارسه، تجاوز كل هذه الجنازات، وبفضله تطوّر المسرح في العالم وصولا إلى العالم العربي، باتجاهاته العبثية والكلاسيكية والأيديولوجية وبمختلف طرقه، فهو في جوهره يعيش على التجريب، ولولاه لاندثر منذ القرون التي ازدهر فيها مع اليونان أو الرومان، وإلى يومنا هذا. فقد ازداد غناء وثراء، وهو أبو الفنون، فضمّ كل الفنون إليه من طريق التجريب، ووسّع أمكنته من الخشبة، إلى مسرح المقاهي والمنازل القديمة والشارع... فهو يتميّز عن كل الفنون باعتباره الوحيد الذي يمارس العمل الجماعي.
ضمّ المسرح كل الفنون إليه من طريق التجريب، ووسّع أمكنته من الخشبة، إلى مسرح المقاهي والمنازل القديمة والشارع
وقد توسّع تطوره، من النص في القرون الماضية، حيث اللعبة الأساسية هي الكلمة، إلى زمن المخرج، والأدوات المستخدمة. فالرؤية باتت هنا من تصميم المخرج، وهو الذي يرسم مراحل العرض ومفهومه، إلى درجة قدّم فيها هؤلاء بعض أعمال شكسبير أو سواه مونولوغا لشخص واحد أو لثلاثة أشخاص.
وقد أمكن العديد من المخرجين والكتّاب العرب، الاستفادة من هذه الظواهر، ليصوغوا مسرحا عليه بصماتهم وإبداعاتهم. إن التنوع الذي عرفه المسرح منذ ستانيسلافسكي حتى اليوم، مكنه من أن يصبح أداة في مواجهة أشكال القمع والاستبداد، وسلاحا لمواجهة مدارات الواقع، والامتداد إلى المستقبل؛ مسارح رؤيا، في المعيش والمعاناة، واحتفالية غنية باللغة والأفكار، زاوج بها علاقته بالشعر والرواية والقصة والسينما، فتعدّديته عائدة إلى أنه مخزون الفنون، بدوره وتطلعه وانفتاحه وثقافاته وتجاوزه الأشكال والطرق الجامدة: إنه يتحرك أبدا، بتغيّراته وتبدلاته وأساليبه. كل ذلك من خلال تمسّكه بالتجريب.
صحيح أن التجريب ليس ابن اليوم، فيمكن أن نتخيّله في المسرح الإغريقي الذي ساد طويلا ثم تجاوزه. فالتجريب وسيلة وطريقة لا ينحصر في أي مفهوم، وهو بذلك يمج المنحى الأيديولوجي حتى في معالجاته، فلا تعريفات تطاوله، ولا قوانين له، فهو كما الشعر يعصى على كل ماهية ثابتة، فكل ذلك يرتبط بالواقع والثقافة والزمن والمكان. إنه انقلاب دائم على الجمود، مفتوح أبدا، لا نهائي. فكل تجريب يحمل في طيّاته احتمالات الفشل ككل شيء غير مسبوق. إذن هو التمرّد الدائم لاستفتاء الذات، بل هو نوع من اكتشاف الذات والأعمال، بل هو كالشعر يقتله التعريف والتحديد وسجنه في مفاهيم "أبدية"، وهذا يعني تجدّده الدائم انطلاقا من زمنه وبيئته لكي يتجاوزهما، تمشيا مع التغيّرات والتبدّلات أي مع تغير المجتمع الذي يحضنه.
قدّمت مهرجانات المسرح العربية مخزون التجارب العالمية، التجريبية والجديدة، فأثرت إيجابا على المسرحيين العرب
وإذا استعار مهرجان القاهرة التجريبي الذي أقيم قبل أيام، وأثار في دوراته الأولى تمنّعا عند كثير من المثقفين والكتّاب، ونعته بالتخريب والاستسلام للغرب وإلغاء التراث، فإن المهرجان في دوراته المتلاحقة امتص كل الضوضاء وتجاوزها، وكان مع المهرجانات الأخرى، كمهرجان قرطاج بتونس، ومهرجانات في الإمارات، ودمشق (هو أُمّ المهرجانات المسرحية، باعتباره أول مهرجان عربي للمسرح وإن توقف عدة مرات ونظن أنه ملغى اليوم لأسباب تعود إلى التحولات السياسية)، ولا ننسى مهرجانات العراق والشارقة والكويت، حيث كانت كلها مسرحا لانفتاح المسارح العربية على نفسها، وعلى التجارب الغربية والأجنبية، وقدّمت لجمهورها مخزون التجارب العالمية، التجريبية والجديدة، فأثرت إيجابا على المسرحيين العرب، وعلى المتذوّقين. إن المهرجانات المسرحية العربية تؤكد بلا شكّ تعدّديات الأعمال التجريبية، في كل دورة، لترصد التغيرات في أساليب التجريب. فمهرجانات القاهرة وقرطاج وغيرهما هي التي ضمّت في دوراتها ألوف العروض (ولا ننسى الندوات الفكرية) منذ انطلاقها، لتسدد خطى المسرح العربي، بل جعلتنا نتكلم على حركة مسرحية عربية تزامنت بين الستينات والتسعينات، بتنوعاتها وجمالياتها وقوّتها، ومهّدت للأجيال الجديدة، لتمارس التجريب من خلال اطلاعها على المسارح العربية والأجنبية، وقد نجحت هذه الأجيال الجديدة إلى حدّ ما في رفع شارة التجريب المفتوح واللانهائي، لتقول للمشككين إن المسرح لا يموت لا لأنه مسرح فحسب، بل لأنه تجريبي.