لخص المفكر الإنكليزي توماس هوبز حالة ما قبل الدولة بوصفها "حرب بين كل إنسان وإنسان آخر"، وهي حرب وليست معركة فقط أو فعل القتال. بل هي فترة من الزمن تكون فيها إدارة التنازع معلومة بما فيه الكفاية. هذا التوصيف ينطبق على صراعات الفاعلين السياسيين في العراق، إذ يعيشون حالة حرب بين "زعيم" و"زعيم"، وبين رئيس الوزراء و"زعيم سياسي". ومرة تكون على شكل حرب باردة أو خفية، وتارة تكون حربا علنية تستخدم فيها كل أنواع الاتهامات السياسية. وكلما اقترب موعد الانتخابات، تقرع طبول حرب السياسيين ضد بعضهم البعض.
لا يخلو أي نظام سياسي من الصراعات بين الفاعلين السياسيين. وربما تكون هذه الصراعات عاملا إيجابيا في فاعلية نظام الحكم، خصوصا عندما يكون سبب تلك الصراعات، خلافات في وجهات النظر أو الطروحات الأيديولوجية بشأن إدارة المجتمع والاقتصاد ومشاريع التنمية. لكن الصراعات بين نخب المنظومة الحاكمة في العراق لا تنتمي إلى هذا النموذج، وإنما هي خلافات بشأن توسيع دوائر السلطة والنفوذ والاستحواذ على مؤسسات الدولة والاقتصاد الريعي. إذ كلما زاد النفوذ السياسي، زاد التضخم في الثروات وفي أعداد الزبائن السياسيين. وما دام الفساد متغلغلا في جميع المفاصل السياسية، فهذه المعادلة تبقى مستمرة.
شخصنة المؤسسات
لم تقف خلافات المنظومة الحاكمة عند حدود صراع الهيمنة والنفوذ على الدولة ومواردها بل انتقلت إلى المؤسسات الرسمية في الدولة. وأصبحت مؤسسات قضائية طرفا في الصراع السياسي. إذ انعكست الخلافات بين الفرقاء السياسيين ومحاولة تصفية الحسابات السياسية على المؤسسة التشريعية عندما قررت المحكمة الاتحادية العليا، إلغاء عضوية رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي بتهمة التزوير. والنقاش هنا ليس في صحة قرار المحكمة الاتحادية من عدمه، لأن قرارات المحكمة الاتحادية باتة وملزمة لجميع السلطات كما نص على ذلك الدستور العراقي لعام 2005. وإنما في إهانة منصب رئيس مجلس النواب عندما يقال من يشغله بتهمة جريمة "مخلة بالشرف" وعندما تصدر المحكمة الاتحادية العليا هذا الحكم القضائي، ما يعني سحبها إلى دائرة تصفية حسابات الخصومة السياسية عندما تتدخل في قضية من اختصاص المحاكم الجزائية وليس المحكمة الاتحادية.
والمفارقة أن هذا القرار القضائي بإنهاء عضوية محمد الحلبوسي في مجلس النواب، ومن ثم إقالته من منصب رئيس البرلمان. لم ينعكس على حضوره السياسي. على الرغم من أن الجريمة التي أدين فيها، يفترض أنها تنهي حضوره وربما يترتب عليها منعه من المشاركة في العمل السياسي. لكن الذي حدث أنه بقي يُستقبل بحفاوة من قبل قيادات الأحزاب والكتل السياسية، ويكون حضوره واضحا في ترتيب الصفقات السياسية التي تتعلق بترشيح رئيس جديد للبرلمان. وهنا تحديدا يبدو التناقض واضحا بين الأثر القانوني لإقالته والمنظومة السياسية التي تعتبر مصالحها وصفقاتها أعلى من الأحكام الجزائية الصادرة من القضاء.
الرغبة بفرض إرادة قيادات الإطار التنسيقي الشيعي، والتقاطعات بين الفرقاء السياسيين السنة، هي السبب الأبرز الذي يعطل اختيار رئيس جديد لمجلس النواب. وضحية هذه الصراعات هو تعطيل استحقاق دستوري وسياسي، ينعكس على أداء السلطة التشريعية. وقيادات سياسية شيعية تعتقد أن شغل منصب رئيس البرلمان من قبل النائب الأول الشيعي، يمكن أن يحقق غاياتها في تمرير مشاريع قوانين وفرض إرادتها على مجلس النواب. وقيادات سياسية شيعية أخرى ترى أن من يشغل هذا المنصب يجب أن لا يكون له مستقبل سياسي، كمحاولة للوقوف بوجه ظهور زعامة سياسية سنية تنبثق من تصديها لشغل منصب رئيس البرلمان. وفضلا عن ذلك، هناك شعور طاغ بالغرور السياسي لدى قيادات سياسية شيعية تعتقد أنها يجب أن تفرض نفسها باختيار رئيس جديد للبرلمان. في المقابل يسعى رئيس الوزراء ومن يتحالف معه من البرلمانيين إلى اختيار رئيس مجلس النواب من القيادات السياسية السنية الجديدة الصاعدة، ليكون حليفا له في المستقبل، ولضمان الولاية الثانية لحكومته.
تشظي مواقف القوى السياسية السنية، ساعد كثيرا في فرض إرادات القيادات السياسية الشيعية في تعطيل استحقاق اختيار رئيس السلطة التشريعية. أيضا، الصراع السياسي السني-السني بدأ ينعكس على استحقاق منصب رئيس البرلمان. إذ ما بين التخوف من بروز زعامة سياسية سنية جديدة تستثمر رمزية منصب رئيس مجلس النواب لتكون رقما في معادلة القيادات السياسية، وما بين محاولة كسر إرادة الخصوم ورفض مرشحهم. بقيت رئاسة البرلمان معطلة، وربما تبقى معطلة لحين انتهاء الدورة التشريعية.