"اتحاد المغرب العربي" يزداد تشرذما اقتصاديا وهجرة للشباب

يحتاج إلى نمو لا يقل عن 6 % على مدى عقد لمعالجة البطالة والمؤشرات المالية

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
مهاجرون يحاولون اجتيازالأسلاك الشائكة لعبور الحدود البرية مع جيب سبتة الإسباني الأفريقي في شمال المغرب في 15 سبتمبر 2024.

"اتحاد المغرب العربي" يزداد تشرذما اقتصاديا وهجرة للشباب

تواجه دول شمال أفريقيا تحديات اقتصادية واجتماعية ومناخية وجيوسياسية غير مسبوقة، قد يكون لها تأثير حاسم على مستقبل سكانها المقدر عددهم نحو 110 ملايين نسمة، داخل مساحة تتجاوز 6 ملايين كلم مربع، في موقع جغرافي إستراتيجي بين الشرق العربي والغرب الأطلسي، وبين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا جنوب الصحراء. لكن عدم التجانس الاقتصادي والخلافات السياسية المتراكمة، تحول دون الاستفادة من التحولات الدولية والنظام العالمي الجديد، مما يزيد الصعوبات الداخلية وعدم الاستقرار الإقليمي، ورغبة الأجيال الصاعدة في الهجرة بحثا عن آفاق أفضل، مما يحرم دولها من كفاءات وخبرات بوصلتها شمالا.

أزمة ثقة في الجزائر وتونس

رسخت نتائج الاستحقاقات الرئاسية الأخيرة في بعض دول المغرب العربي، الصورة السابقة بتزوير الانتخابات والهروب من المساءلة التنموية عبر تضخيم الأخطار الخارجية ومعاداة الجيران. وكتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية "إن نسبة الفوز بـ 95 في المئة تذكر بنسب انتخابات الأنظمة السوفياتية السابقة. لذلك فان عدم رغبة الشعب في دعم عملية انتخابية محسومة سلفا تخلق عدم ثقة وفجوة مقلقة مع النظام". ويعتقد محللون أن السياسة تفسد التنمية الاقتصادية في دول المنطقة، لأنها تخاف من مواجهة المستقبل وتفضل الانغلاق في خلافات الماضي. ويكاد الجيل الجديد يجمع على أن مشاكله اقتصادية واجتماعية في الأساس، وليست خلافات سياسية قديمة كما تريدها بعض الأنظمة للحفاظ على مواقعها بافتعال صراعات وهمية وأعداء مفترضين.

وما قيل في شأن الانتخابات الجزائرية لن يختلف عن الانتخابات الرئاسية في تونس المنتظرة الشهر المقبل على صيغة المثل القائل (لقد سبق القرار الحوار). لذلك تعتبر قضية شرعية الحكم والإقصاء الاقتصادي من الأسباب المباشرة لهجرة الشباب نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، حسب موقع "يوروستات" الأوروبي. وانتقد ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي "غياب قضايا الشباب والمرأة والتعليم والصحة والتنمية والبطالة والحوكمة ومحاربة الفساد والفوارق الاقتصادية وتوزيع الثروة".

مع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم منذ أزمة "كوفيد 19" زاد عدد طالبي الهجرة من شمال أفريقيا صوب شمال القارة الأميركية، وتستقطب كندا آلاف الشباب في تخصصات مختلفة

تفيد معطيات إحصائية انه في منتصف الصيف الماضي، كان نحو 40 في المئة من سكان جنوب البحر الأبيض المتوسط، خصوصا الفئات المتعلمة والكوادر العليا وأصحاب المهارات المهنية يرغبون في الهجرة نحو الخارج.

أسباب الهجرة: البطالة والتضخم

وتشجع الدول الأوروبية القريبة التي تعاني شيخوخة متزايدة ونقصا في العمالة على هجرة الأدمغة. وأفاد معهد "باروميتر العربي" (Arab Barometer) أن شمال أفريقيا تبقى البوابة الأكثر طلبا للهجرة نحو أوروبا. ويفضل 46 في المئة في تونس، و36 في المئة في الجزائر، و35 في المئة في المغرب، و22 في المئة في موريتانيا، الهجرة نحو الخارج.

أ.ف.ب.
الرئيس قيس سعيد (في الوسط) خلال استضافته قمة مغاربية مصغرة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون (يسار) ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، في العاصمة تونس، 22 أبريل 2024.

وقال التقرير إن السخط الاقتصادي يدفع نحو الهجرة في مجموع المنطقة. وتعتبر الجالية المغاربية في أوروبا الأكثر عددا وحضورا، مقارنة بالجاليات الأخرى غير الأوروبية. وهي تقدر بنحو 12 مليون شخص معظمهم يحمل هوية بلد الإقامة، خاصة في فرنسا وبلجيكا واسبانيا وإيطاليا وهولندا وألمانيا. وتقدر البطالة في دول المغرب العربي الكبير من 13 إلى 20 في المئة وتصل إلى الثلث لدى النساء والمتخرجين، وهي من أعلى النسب في العالم حسب منظمة العمل الدولية في جنيف.

صارت السياسة مرذولة من الأجيال

ومع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم منذ أزمة "كوفيد 19" زاد عدد طالبي الهجرة من شمال أفريقيا صوب شمال القارة الأميركية، حيث تستقطب كندا حاليا آلاف الشباب في تخصصات مختلفة بإغراءات اجتماعية وأجور مرتفعة قياسا لما يتقاضونه في دولهم . وكلما فشلت اللعبة الانتخابية محليا زاد عدد المغادرين، بعد أن صارت السياسة مرذولة من الأجيال الصاعدة، رغم أن بعض دول المغرب العربي تتوفر على ثروة نفطية وإيرادات مهمة يتم تسخير في نفقات عسكرية.

إقرأ أيضا: الهجرة إلى الشمال تهدد سياسة "ابتلاع الثعابين" بين المغرب وإسبانيا

ويتطلع نحو 23 مليون حاصل على شهادة عليا في العالم إلى الهجرة نحو الولايات المتحدة، و17 مليونا نحو كندا، و9 ملايين نحو اوستراليا، لو أتيحت لهم الفرصة وفق استطلاع نشرته مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية. وتعتبر إيران والإكوادور وجمهورية الكونغو الديمقراطية من أكثر المجتمعات استعدادا للهجرة نحو الخارج، لأسباب مختلفة أهمها الاقتصاد والحرية والأمن.

أوروبا تقايض الحكومات المغاربية بمساعدات مالية واقتصادية لتوقيف الهجرة السرية الأفريقية القادمة من البحر، آخرها 900 مليون يورو لتونس

وتفضل دول الاتحاد الأوروبي الأطباء والمهندسين والمحاسبين ومبرمجي الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي والمهن التشغيلية القادمين من دول المغرب العربي بسبب اللغة والثقافة، وفي المقابل هي تقايض الحكومات المغاربية بمساعدات مالية واقتصادية لتوقيف الهجرة السرية الأفريقية القادمة من البحر. واتفقت مع تونس على حزمة تمويلات قد تصل إلى 900 مليون يورو للحد من أساطيل المهاجرين صوب السواحل الايطالية.

وكانت تونس الخضراء التي تواجه صعوبات مالية واقتصادية وشحا في العملة الأجنبية، تعرضت لضغوط أوروبية في موضوع الهجرة بعد فشل مفاوضات التمويل مع صندوق النقد الدولي بحزمة 2 مليار دولار.

أ.ف.ب.
خفر السواحل الليبي ينقذ 147 مهاجرا غير شرعي قبالة السواحل الليبية عند مدينة الزاوية، غرب العاصمة طرابلس، 27 يونيو 2017.

وغالبا ما يخوض الاتحاد الأوروبي مفاوضات مع الدول المغاربية بشكل منفصل، رغم ارتباطها مع بروكسيل باتفاقيات للشراكة والمبادلات وحسن الجوار. وتعتبر المغرب وتونس من أقدم شركاء السوق الأوروبية المشتركة منذ سبعينات القرن الماضي لأنها كانت محسوبة على مجموعة الدول الليبيرالية، عكس الجزائر التي كانت محسوبة على المعسكر السوفياتي، ولها امتياز الهجرة نحو فرنسا يعود إلى عام 1968 يشمل الإقامة والعمل والمساعدات الاجتماعية. وتطالب الأحزاب الفرنسية اليمينية بإسقاط هذا القانون المثير للجدال.

ويعتقد البنك الدولي انه منذ عام 1990 لم تتمكن سوى 34 دولة عبر العالم من الانتقال من اقتصاد متوسط الدخل، إلى اقتصاد مرتفع الدخل، بسبب غياب الصناعة والإبداع والابتكار في غالبية اقتصاديات الدول النامية. وتمثل كوريا الجنوبية نموذجا مثاليا للخروج من الفقر حيث ارتفع دخل الفرد من 1200 دولار عام 1960 إلى 33 ألف دولار عام 2023. وكسبت الرهان بالتعليم والابتكار العلمي.

من غير المستبعد حدوث مواجهة عسكرية بين الجزائر والمغرب على غرار حرب الرمال الأولى 1963 إذا زادت التوترات

"المعهد الايطالي لتحليل العلاقات الدولية" في روما

على الرغم من أن منطقة شمال أفريقيا الممتدة من ليبيا إلى موريتانيا حققت في السنوات الأخيرة ثاني أسرع نمو اقتصادي (قرابة 4 في المئة)، وتتوفر على ثروات طبيعية وباطنية وجغرافية هائلة، إلا أن تحويل تلك الموارد إلى فرص عمل تظل محدودة، مما يدفع بملايين الشباب نحو التفكير في الهجرة، قانونية أكانت أم سرية لتحسين الأوضاع الاقتصادية. وتتوقع المنطقة تحقيق نمو يصل الى 4,2 في المئة عام 2025، ونحو 3,6 في المئة العام الحالي، و4 في المئة عام 2023 حسب تقديرات البنك الأفريقي للتنمية، علما أن متوسط النمو العالمي سينخفض إلى 2,6 في المئة فقط بنهاية عام 2024 بسبب الأزمات الجيوسياسية وضعف الطلب على الطاقة. 

وتحتاج المنطقة المغاربية إلى نمو لا يقل عن 6 في المئة على مدى عقد من الزمن لمعالجة إشكالية التنمية والبطالة والحسابات الماكرو اقتصادية. وكان يمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال تفعيل اتفاقات تعود إلى 60 سنة خلت، كانت ستسمح بإضافة نقطتين على الأقل إلى النمو الحالي، مما كان سيجعل الناتج الإجمالي يفوق مثيله في اسبانيا والبرتغال معا. لكن إغلاق الحدود وعدم تجانس التشريعات والقوانين والاختيارات المتعارضة جعلا المنطقة المغاربية متشرذمة دون تكامل أو تعاون اقتصادي.

إقرأ أيضا: المال بدل الرصاص… شكل جديد لـ"الحرب الأهلية" في ليبيا

ولم يستبعد "المعهد الايطالي لتحليل العلاقات الدولية" مقره روما، "حدوث مواجهة عسكرية بين الجزائر والمغرب على غرار حرب الرمال الأولى 1963 إذا زادت التوترات". ويسجل عودة القُطرية إلى المنطقة المغاربية في زمن العولمة والانفتاح الاقتصادي، مما يوحي بمزيد من إغلاق الحدود والتضييق على التجارة والاستثمار والتنقل. وتعتبر المنطقة المغاربية الأقل اندماجا في حركة تنقل السلع والأفراد ورؤوس الأموال هي الأضعف في العالم، وتقل عن 3 في المئة، مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي التي تتراوح النسبة بين 52 و72 في المئة من إجمالي التجارة البينية بين دولها.

صفر مبادلات تجارية بين الجزائر والمغرب

تراجعت المبادلات بين الجزائر والمغرب نحو 62 في المئة بين عامي 2022 و2023، وهي تقترب من الصفر حاليا، بعد إلغاء كل العقود والاتفاقات وبرامج الأعمال مع الشركات والمقاولات المغربية (من دون تعويض). كما تم التعاقد على تفريغ التجارة الجزائرية في الموانئ الاسبانية، وإعادة شحنها محليا بإضافة تكلفة 100 دولار على كل حاوية، عوض تفريغها في ميناء طنجة القريب. وكانت الواردات المغربية من دول الاتحاد المغاربي تقدر بـ 0,7 في المئة والصادرات بـ 1,5 في المئة قبل إغلاق أنبوب الغاز المغاربي عام 2021، الذي كان يؤمن مليار متر مكعب من حاجيات المغرب من الغاز، وتحصل الجزائر في المقابل على إيرادات بلغت 1,1 مليار دولار عام 2022. حسب تقرير مكتب الصرف.

تعتبر المنطقة المغاربية الأقل اندماجا في حركة تنقل السلع والأفراد ورؤوس الأموال في العالم، وتقل عن 3%، في مقابل ما بين 52 و72% التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي

كانت ليبيا في عهد معمر القذافي وتونس في عهد زين العابدين بن علي تقيمان نوعا من التوازن الإقليمي في المنطقة المغاربية سياسيا واقتصاديا، مما كان يسمح بتقاسم الأدوار وإدارة المؤسسات وحتى التخصصات بشكل يرضي الجميع: الجزائر وليبيا تنتجان النفط والغاز، المغرب ينتج الفوسفات والمنتجات الزراعية والغذائية، تونس تختص بالسياحة وزيت الزيتون، والمعادن الباطنية من نصيب موريتانيا.

إقرأ أيضا: تحالفات محافظ البنك المركزي الليبي تسقطه... مؤقتا

 توقفت التجربة نهائيا عندما قطعت الجزائر علاقتها مع المغرب في أغسطس/آب 2021 ، تلاها إغلاق أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي بعد شهرين من ذلك، في مسعى لإضعاف المغرب المحتاج للطاقة الاحفورية. ثم دخلت الجزائر في علاقات تجارية غير مستقرة مع أسبانيا عام 2022 عنوانها "الغاز في مقابل مناهضة حقوق المغرب في الصحراء وسبتة ومليلة".

أ.ف.ب.
ناخبة جزائرية تلوح ببطاقة الاقتراع بعد التصويت، في أحد مراكز الاقتراع للانتخابات الرئاسية الجزائرية في العاصمة الجزائر، 7 سبتمبر 2024.

لكن العلاقات ما فتئت أن تدهورت بعد اعتراف مدريد بمغربية الصحراء عام 2023. انتقلت بعدها الجزائر إلى مقايضة فرنسا حول الذاكرة الاستعمارية عن الفترة 1832-1962 لكن التجربة سقطت برسالة اعتراف فرنسي بحقوق المغرب التاريخية في الصحراء الغربية، بعثها الرئيس ايمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس في عيد الجلوس 30 يوليو/تموز المنصرم.

الجزائر في حاجة إلى تنويع اقتصادها

ووجدت الجزائر عشية الانتخابات الرئاسية نفسها في شبه عزلة: قطيعة مع المغرب، وخلاف مع إسبانيا، وعلاقات متوترة مع فرنسا، وحشد الجيوش على الحدود مع جنوب ليبيا وشمال مالي، وأزمة مع روسيا حول "فاغنر" في دول الساحل.

يتطلب تحقيق توازن المؤشرات الاقتصادية الكلية في الجزائر وصول سعر برميل النفط إلى 126 دولارا، وهو ما يبدو بعيد المنال حاليا

صندوق النقد الدولي

يقول صندوق النقد الدولي إن الجزائر تحتاج أن يصل سعر برميل النفط الى 126 دولارا للتغلب على التوازنات "الماكرو اقتصادية". وهذا غير متاح بعدما تراجعت أسعار النفط دون 78 دولارا مطلع سبتمبر/أيلول، مما سيضغط على موارد الدولة واحتياطها من العملات الصعبة المقدرة 68 مليار دولار. ولأن الحكومة وعدت بزيادة الدعم والنفقات العمومية فإن عجز الموازنة سيظل مرتفعا بمعدل 7 في المئة من الناتج الإجمالي. وتبدو المؤشرات الاقتصادية غير مقلقة حاليا بعدما تضاعف النمو ثلاث مرات عن قيمته قبل عشر سنوات.

لكن الاعتماد على النفط والغاز وحدهما دون تنويع المصادر يهدد الاقتصاد على المدى المتوسط كما حدث عامي 2017 و2019، عندما كان البلد على شفا الإفلاس المالي. ويعتبر الاقتصاد الجزائري الأكبر في المنطقة المغاربية بنحو 266 مليار دولار باحتساب القطاع غير المهيكل والتضخم، لكنه يشبه "كعب أخيل" كونه هَشا في مصادر الدخل، لأنه يعتمد على صادرات النفط والغاز بنسبة 96 في المئة، وهو تحدٍّ كبير قد يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويُضعف الاستقلال السياسي والممانعة.

font change

مقالات ذات صلة