إلياس خوري: صانع الأدب الناجي من سجون التاريخhttps://www.majalla.com/node/322249/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A5%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B3-%D8%AE%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%AC%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D8%AC%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE
وُلد الكاتب والمثقف والصحافي اللبناني إلياس خوري في بيروت في 12 يوليو/ تموز 1948، وهو العام الذي تشكّلت فيه ملامح الجرح الأعمق في منطقتنا، والذي طال كل ما كان ثابتا ومألوفا ومعروفا، ففَتَّته وأحاله إلى نسق صراعي. نكبة فلسطين التي طبعت عام ولادته كانت علامة شخصية وثقافية في مسيرته، وكأنها عنوان بقي يلاحقه حتى لحظة وفاته، بعد معاناة مع المرض، يوم الأحد 15 سبتمبر/ أيلول 2024.
حين أصدر روايته "مملكة الغرباء" عام 1993، كان العالم تغيّر تماما، وأصبح رجراجا وملتبسا. وكان الكاتب آنذاك مضطرا إلى خوض عملية بحث وإعادة تعريف شاقة تشمل كل شيء في الثقافة وأساليب الكتابة ومراجعها فقد كان الغموض عاما والالتباس عميقا. فالحرب اللبنانية كانت انتهت، لكن مساراتها بقيت تحكم العلاقات بين الناس والتيارات والطوائف، وتخلق أنساق الوعي والمعايير التي تنتج صورة الذات والآخر. كما أن النضال المسلح، الذي كان شكّل مادة أساسية للعمل السياسي ورافعة للقول الأدبي والتحليل الفكري، انطوى وتراجع مع اتفاق أوسلو عام 1993، وأصبح الوضع الجديد الخالي من الإحالات والمرجعيات الواضحة والآمنة يتطلب الخوض الدائم في الرمال المتحركة والبحث عن المخفي والغائر ومقاربة ما لا يُحتمل.
انتمى إلياس خوري إلى جيل اضطر إلى خلق لغته وأساليبه وآرائه بنفسه، فذلك العري السياسي والإيديولوجي والثقافي الذي طبع لحظة انطلاقته الروائية جعله نحاتا للأساليب ومنتجا لمسارات القول والتفكير وصاحب مدرسة في الكتابة الروائية.
ذلك العري السياسي والإيديولوجي والثقافي الذي طبع لحظة انطلاقته الروائية جعله نحاتا للأساليب ومنتجا لمسارات القول والتفكير
هو أحد الروائيين القلائل الذين اعتنوا بمسائل التوثيق غير المألوفة والتراث الشفهي وما يتناقله الناس ويتداولونه، وعمل على إدراج حصيلة تلك الأبحاث في عمله الروائي بصيغة أثر محفور وخلاصات محكمة لا يمكن تجاوزها. كما أن معرفته وإطلاعه على أساليب الكتابة الروائية والمناهج النقدية الحديثة لم تجعل رواياته متحفا للأنواع ومسرحا للبراعات والتفنن، بل كان لافتا أنه يعود بالمسألة إلى بداياتها العميقة التي يرجح أن تكون منطقتنا أصلها، فيدافع عن الحكاية وتدفقها ويجعل الشخصيات والأفكار بمثابة شهود على حكاية متشظية كرّس حياته لكتابة الممحو من سطورها الغائرة.
الانهمام بالسرد اللاتاريخي
تحتلّ مسألة البناء الشكلي موقعا مركزيا في أعمال إلياس خوري ورواياته الـ12، وتمثل احتجاجه الأصيل والجوهري على التنظيرات والمدارس الأدبية التي تجعل الأدب عبدا للمضمون والمغازي السياسية. دافع بشراسة منذ روايته الأولى "عن علاقات الدائرة" الصادرة عام 1975 وصولا إلى روايته الأخيرة "أولاد الغيتو 2: نجمة البحر" الصادرة عام 2019، عن مفهوم الشكل الكتابي وطريقة السرد التي يرى أنها تمنح النسيج الروائي ملامحه وتضبط إيقاعه وتنظم حركته، وتنشئ من خلال شبكات البناء الغزيرة نظام علاقات روائيا هو في الآن نفسه حامل للانفعالات والدلالات.
يقول في حوار لمجلة "مواقف" عام 2001: "ربما أظن أن هناك عدة خيوط، ولكن أبرز خيطين هما: الأول طريقة السرد، أي كيف تُبنى الرواية. الخيط الثاني هو العلاقة بالمضمون والمعنى – العلاقة بالموت انطلاقا من التفكير بالحياة اليومية."
أولوية البناء السردي لم تكن مجرد خيار منهجي، ولكنها كما تظهر متابعة مسار روايات خوري، كانت التكثيف الأبرز لمواقفه السياسية، والتظهير الأعمق لانحيازاته وآرائه التي كان يحرص دائما على صبّها داخل الأعمال الروائية، في عملية تفريق واعية ودقيقة بين الرأي السياسي الذي يمكن أن يكتبه في صفحات الجرائد من موقع المواطنة، وبين ذلك الموقف الذائب والإشكالي والملتبس الذي يدرجه في رواياته.
الرأي خارج الرواية آيل الى الموت، ولكن ما يمكن التعبير عنه من داخل نسيجها لا يموت، لأنه قول مفتوح بلا قائل محدّد. فالياس خوري واحد من الروائيين العرب القلائل الذين يعي ويحرص على أن يكتب للآخر، وأن تكون سيرته ذائبة في حكايات الآخرين، أو أن يتركها تُكتب من خلالهم.
والسير العامة لا يرصدها التاريخ المتطلب للوثيقة والتسجيل، ولكن التاريخ المضاد كما نظر إليه خوري ودوّنه، كان ذلك الذي يتناقله الناس ويعرفونه ويعيشونه ويؤثر فيهم، أي الأنواع الحية من الحكايات التي تبقى خارج التدوين، وتشكل مسارا للتأريخ التأويلي المتعدد المصادر والمراجع. فالحكايات الملتقطة من أصحابها أو تلك المتناقلة عبر الأجيال أو التي تخبر عن ما لا يمكن البوح به، فلا تعطي قصة واضحة بل تعبر عن أثر.
واحد من الروائيين العرب القلائل الذين يعي ويحرص على أن يكتب للآخر، وأن تكون سيرته ذائبة في حكايات الآخرين، أو أن يتركها تُكتب من خلالهم
اجتهد الياس خوري في ملاحقة كل تلك الحكايات وتمثيلها في المتن الروائي بصيغ إشكالية وتأويلية تحاكي التأليف التاريخي بطريقة درامية وساخرة في مرات كثيرة، وكأنها تنفي حدوثه أو تعتبره حكاية مزورة تمثل السلطات التي تعممها.
التاريخ الفعلي يجري في مكان آخر، وهو إذ لا يثبت ولا يكف عن الجريان والحركة، لا ينتج أخبارا ومعلومات بل يرسم مسارات يمكن فيها أن تتبادل الحقائق والخيالات والأحلام مواقعها. لا يفقد أيّ منها مرجعيته وقدرته على إثارة التأويلات المفتوحة والجارحة التي تضيء على ما لا يمكن احتماله، وعلى ما كان يُعتقد أن مجال القول فيه قد استُنفد. يعود كل شيء إلى لحظة صفرية تساؤلية إشكالية تعادي التمركز في المعنى.
التقاط لحظة ما بعد الحداثة
تتماهى روايات إلياس خوري مع أفكار ما بعد الحداثة، وقد يكون أبرز من التقط روحها وسعى إلى توظيف مجالاتها ومفاهيمها في تركيب نوع روائي تنسجم شخصياته وأفكاره مع ما نادت به تلك الحركة الثورية من التشكيك في السرديات المهيمنة وتسفيهها ومعاداة كل ما هو كلي ومطلق. التاريخ الفعلي يجري في مكان آخر.
كان إلياس خوري يؤمن بأن المعنى هو الخطأ، وأعلن موقفه الواضح من هذه المسألة في أحد حواراته: "من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي؟ حلمي الدائم هو الوصول إلى نص بلا معنى مثل الموسيقى، معناه يأتي من إيقاعات الروح التي فيه وهو خاضع لتأويلات شتى".
ولطالما اتُّهم خوري بأنه كتب رؤيته الخاصة لمواضيع عديدة، وأهمها الحرب اللبنانية. يسجل ردّه على شخص واجهه بتلك التهمة، حيث يروي أنه أجاب: "لا بأس، اكتب رؤيتك أنت، فأنا غير معني بالحكاية الواحدة والصيغة الواحدة".
من هنا يمكن القول إن إلياس خوري كان مؤسسا لأسلوبية سردية روائية خاصة تعتمد تفجير الأزمنة والصفات والتواريخ والأحداث، وخلق أحوال تكون فيها الشخصيات دائما في مرحلة عبور وانتقال وتحول شامل وراديكالي، قياسا على الأحوال اللبنانية والفلسطينية التي اهتم بتدوين حكاياتها الممتنعة على لسان أبطالها وضحاياها المختلقين والفعليين، وهؤلاء المشغولين روائيا، وتركهم يتبادلون الأدوار والمواقع والصفات والمصائر بشكل مستمر.
في رواية "باب الشمس"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1998 والتي حوّلها المخرج يسري نصر الله إلى فيلم عام 2004، يستعرض نكبة عام 1948 ويختار اللجوء كمرجع للحكايات ومتن للسرد. وهو مرجع ملتبس وغير تاريخي، لكنه يستطيع أن يملأ كل الفجوات التي يتجاهلها التاريخ أو يعيد تأليف الحكايات في واقعها الحي، أي في ما آلت إليه وفي تلقيها وتمثلاتها المتحولة إلى حياة.
يوجه الشكر في الصفحة الأخيرة إلى اللاجئين: "لم تكن هذه الرواية ممكنة لولا عشرات النساء والرجال في مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس وعين الحلوة الذين فتحوا لي أبواب حكاياتهم وأخذوني في رحلة إلى ذاكرتهم وأحلامهم".
الوثيقة المضادة
وبالانتقال إلى نص الرواية، تقول إحدى الشخصيات في سردها لما جرى في العام 1948، في ما يشبه بيانا نافيا لكل ما استقر حول هذا الموضوع من روايات وأخبار ووثائق وتأريخ: "والله ما كانت حربا، والله مثل الحلم. لا تصدق يا ابني أن اليهود ربحوا حرب الـ48. في الـ48 لم نحارب. لم نكن نعرف، ربحوا لأننا لم نحارب، هم أيضا لم يحاربوا، فقط ربحوا، وكانت مثل المنام".
تلك هي الوثيقة المضادة أو الحدث بلسان أهله وأصحابه، وهو الشكل الذي اعتنقه خوري كنمط أسلوبي يحمل الخطاب كله، وانهمك بالتنويع عليه وتوسيع إمكاناته في كل رواياته، وتطويره بوصفه مهمته ووصيته التي تختصر مشروعه الذي كان دائم الانشغال بالبحث في أدبية الأدب وكيفية القول.
نجح خوري في جعل الأدب المكتوب بالعربية جزءا من حركة الأدب في العالم، وأدخل المآسي الفلسطينية وعناوين النكبة والحرب الأهلية في لبنان في اشتباك جدلي ومفاهيمي مع ما يحدث في العالم، وجعلها تحضر فيه انطلاقا من خصوصيتها المعاد تشكيلها أسلوبيا ومرجعيا بما يجعلها قادرة على انتزاع مواقعها في خرائط التلقي العالمية.
نجح خوري في جعل الأدب المكتوب بالعربية جزءا من حركة الأدب في العالم، وأدخل المآسي الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان في اشتباك جدلي مع العالم
دافع عن أبطال مهمشين يستطيعون سرد حكاياتهم بلسان ما بعد حداثي، يلعب فيه التشظي وإعادة تركيب الأحوال حلميا وتخييليا دور تكريس واقعية ما جرى، وليس العكس. نحن في عالم يحترم الأحلام والخيالات ولا يبالي بالوثائق، لذا فإن تدوينها بذلك النهج الإشكالي يجعلها ممكنة الوجود لأنها صعبة وعصية على الالتقاط والتحديد.
من كل هذه الطبقات، يصنع الياس خوري أدبية السياسي والنضالي والاجتماعي، إذ أن الشخصيات التي يبنيها خيالية بالكامل بقدر ما هي مسرفة في واقعية تمثيلها للأحوال. كما أنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها أو أن تبث خطابها إلا من خلال اجتماع مكوناتها المتناقضة والمتشظية.
في رواية "سينالكول"، التي صدرت عام 2012، لا نعرف من هي الشخصية أو ماذا يعني الاسم. فهو يحيل إلى معنى "الخالي من الكحول"، ويقال إنه اسم لمشروب غازي كان يقلد الكوكاكولا، عملت على إنتاجه شركة طرابلسية لبنانية أفلست في ما بعد. وكذلك يُروى أنه اسم لشبّيح معروف في مدينة طرابلس. سؤال "من هو" و"ما هو" غير قابل للإجابة، ولكن الحدث الروائي في تناول خوري هو كل ذلك مجتمعا بكل تعريفاته وإحالاته الممكنة الواقعية والهذيانية.
في رواية "يالو"، الصادرة عام 2002، تتخذ حياة المقاتل في الحرب الأهلية،ى يالو، الذي عانى من طفولة قاسية وتربّى في كنف جده، مسارات عديدة تجعله معتقلا بتهمة الانتماء إلى عصابة متفجرات. وخلال التحقيق، وبعد تعرضه للتعذيب، يُطلب منه كتابة اعترافات، فيكتب قصصا عريضة تتداخل فيها الأحداث في ذاكرته، مشكلة خلطة غرائبية مختلقة وخيالية.
تُكتشف العصابة الحقيقية فيما بعد، ولا يكون لـ يالو أي علاقة بها، ولكن ما كان كتبه بات يشكل سيرته وهويته. وعندما يفقده، سيفقد كل شيء. يقول المحقق له في نص يورده الكاتب باللهجة اللبنانية: "ما تآخذنا يا مسيو يالو، عذبناك معنا. قصتك سخيفة وما بتستاهل. اكتشفنا عصابة المتفجرات واعترفوا بكل شي، وإنت ما إلك علاقة... ليش تذاكيت علينا وكتبت قصص ما إلها نهاية، وهيدا يللي خلانا نشك فيك، بينما إنت أهبل".
لقد كتب يالو الاعترافات الهذيانية كنتيجة للتعذيب، فمن يكون الكاتب الفعلي في هذه الحالة؟ هل هو يالو، أم التعذيب، أم إلياس خوري نفسه الذي يدبّج خطابا يدس فيه أفكاره؟ لا نعرف، ومن غير الممكن أن نعرف. ويصرّ إلياس خوري على أنه ليس مهما أن نعرف من الكاتب، فالشخصيات دائما أهم من الكاتب، والرواية التي كتبها دائما كانت ذاكرة المهزومين التي لا تحتفظ إلا بالزبدة والخلاصات، وتعرضها في حالتها الأصلية في هيئة رعب ومخاوف وهذيانات وأحلام.