أنطلق من فرضية، أتمنى أن تجد تبريرها في نهاية هذا المقال، ترى أن التعددية اللغوية سمة الكتابة بما هي كذلك، فلا محيد للكاتب من أن "يغرق" في لغات متعددة، علما بأن اللغة بابلية في جوهرها. لا يعني ذلك فحسب أن الكاتب يجد نفسه أمام كثرة من اللغات، وإنما أن هذه اللغات تتشابك عنده في عمليات ترجمة. وسرعان ما يجد نفسه في وضعية ترجمة لا تتوقف. وعندما تدخل اللغات في عمليات ترجمة فإن تعددها ينتعش، ولا تعود اللغة تقتصر على الاختلاف مع غيرها من اللغات، وإنما تسعى لأن تخالف ذاتها.
كان المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي كتب: "إن الازدواجية اللغوية، وإن تعدد اللغات، ليسا مجرد علائق خارجية بين لغة وأخرى، وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب ترتسم دوما كلمات أخرى، كتابتها الضيْفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة لغات أخرى".
فيض اللغة
هذا الخروج، خروج اللغة وفيضها، وخروج الكاتب وتورطه في تعددية ثرية، ليس من شأنهما أن يرميا المترجم في أحضان الآخر، وإنما أن يجعلاه كائنا سندباديا يحيا بين لغات ويعيش بين ثقافات، فيفتح ذهنه على التنقل والهجرة والتجدد، ويجعل من الترجمة أداة لتمكين الثقافة من أن تمتحن ذاتها على ضوء الآخر، ووسيلة لتعريض الهوية لامتحان تتلقى فيه دفعا عنيفا يأتيها مما هو أجنبي، وهو دفع يجعل الذات تشعر بالغربة والغرابة، لا أمام غيرها فحسب بل أمام ذاتها. على هذا النحو تغدو الكتابة أداة تخلصٍ مما نملك Désappropriation، وانسلاخٍ مما يخص، كما تغدو الترجمة أداة انفصال للغة عن ذاتها، وللثقافة عن نفسها، وللأنا عن ذاته.