"حزب الله"... بنية "مرنة" تضم إيرانيين وتخترقها إسرائيل

التصعيد "المضبوط" مع تل أبيب نهاية أغسطس لم يغير من تحدي الاغتيالات

أحمد الربيعي - أ ف ب
أحمد الربيعي - أ ف ب
خلال تشييع عنصر من "حزب الله" في جنوب لبنان في 4 نوفمبر 2023

"حزب الله"... بنية "مرنة" تضم إيرانيين وتخترقها إسرائيل

منذ أن اغتالت إسرائيل القيادي في "حزب الله" عباس الموسوي عام 1992، يدور جدل في المجال العام حول "الحزب" وهل هو قادر على البقاء وتحمل فقدان كبار قادته. حيث قُتل عدد من هؤلاء القادة خلال هذه الفترة، غير أن "الحزب" يواصل بقاءه. ويرجع سبب ذلك إلى أن "الحزب" لا يعتمد في طريقة عمله على الشخصيات الفردية، بل يستند إلى هيكل تنظيمي مرن مدعوم من طهران.

وغالبا ما يربط مفهوم المرونة خطأً بالصلابة. إذ يرى هذا التصور الخاطئ أن الكيان المرن قادر على التمسك بترتيبه القائم في مواجهة الشدائد، بحيث يرتدّ دون تغير عند التغلب على التحديات. وبتطبيق هذا المفهوم الخاطئ على "حزب الله"، فإن عدم "التزعزع" هذا يعني احتفاظ "الحزب" بهيكله وطريقة إدارته لأنشطته كما هي، سواء حدثت الهجمات الإسرائيلية أو غيرها أم لم تحدث.

إلا أن التصور الأفضل للمرونة هو أن ننظر إليها على أنها القدرة على البقاء من خلال التكيف مع الظروف المتغيرة. وبنية "حزب الله" مرنة لأنها اعتمدت هذه المطاوعة. فالمرونة لا تسمح له بالتعافي من الانتكاسات فحسب، بل تعني أيضا أن "الحزب" بطبيعته يعمل بسيولة وسلاسة.

الرابطة الوثيقة

أظهر "حزب الله" من الناحية السياسية الكثير من السلاسة والسيولة طوال مسيرته. فقد غيّر موقفه من الدولة اللبنانية بدءا من نظرته إليها كدولة غير شرعية في الثمانينات، إلى تقديم نفسه كمدافع عن لبنان.

وانتقل من العمل خارج نظام الدولة بشكل صارم إلى أن يكون أعضاؤه نوابا ووزراء في الحكومة اللبنانية. ويشكل التطور السياسي لـ"حزب الله" عاملا مهماً ساهم في بقائه السياسي والعسكري.

وقد ترافق هذا التطور جنبا إلى جنب مع بيئة مواتية في الوسط السياسي اللبناني، إذ رأت بعض الأحزاب السياسية كـ"التيار الوطني الحر" أنها بتحالفها مع "حزب الله" تقتنص فرصة سياسية لصالحها، فأفضى ذلك بدوره إلى زيادة مكانة "حزب الله" السياسية. كما حقق "الحزب" بلجوئه إلى القوة مشاركة متزايدة في الشؤون السياسية في لبنان: فنشاطه في ترهيبه خصومه السياسيين وتعطيله انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية إميل لحود عام 2007، مهد الطريق أمام البيان الوزاري عام 2008، الذي منح "الحزب" شرعية رسمية بوصفه جزءا من إطار الدفاع عن لبنان.

يتمتع "حزب الله" بدرجة من الاستقلالية العسكرية من حيث إدارة المعارك على الأرض، لكن القرارات الرئيسة بالانخراط في حرب شاملة والتوسط في السلام يتخذها "الحزب" بالتنسيق مع إيران

وهذا البيان الوزاري، الذي كان أحد مخرجات اتفاق الدوحة عام 2008، وأنهى الفراغ الرئاسي بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، تضمن أن يتولى "الجيش والمقاومة (أي حزب الله) والشعب" مسؤولية الدفاع عن لبنان.
وقد مكن هذا الاستثناء "حزب الله" من بناء ترسانته العسكرية وتدريب مقاتليه والانخراط في عمليات قتالية دون الحاجة إلى أي إشراف أو تنسيق مع القوات المسلحة اللبنانية أو الدولة اللبنانية. وقد ساهمت هذه الحرية في تعافي "الحزب" بعد الخسائر المادية التي تكبدها في الحرب مع إسرائيل عام 2006. واليوم يعد "حزب الله" من أكثر الميليشيات تسليحا في العالم. وإذا ما قرر مهاجمة إسرائيل بعدد كبير من الصواريخ، فيمكنه أن يطغى على الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية مثل القبة الحديدية.

الهيكل التنظيمي 

يحتل منصب الأمين العام (يشغله حسن نصر الله حاليا) أعلى مستوى في الهيكل التنظيمي لـ"الحزب". إلا أن تصفية الأمين العام كما اتضح مع اغتيال الموسوي، أو تغير الموقف الشعبي منه، لا يدفعان "الحزب" نحو الانهيار. ففي عام 2006، حظي نصر الله بدعم شعبي كبير بسبب ظهوره الاستعراضي وخطاباته أثناء الحرب مع إسرائيل وبعدها، وخلقت له لدى البعض صورة القائد الذي يتمتع بالكاريزما. ولكن مع مرور الوقت، فقدت خطاباته التي كانت آسرة ذات يوم تأثيرها. فقد أدى تدخل "حزب الله" في سوريا قبل عشر سنوات إلى زيادة تآكل صورته.
وبعد الأزمة المالية التي شهدها لبنان عام 2019، والأزمة السياسية المرتبطة بها، فقد نصر الله هالته في الحقيقة، عندما أدرج اسمه هو و"حزب الله"، ولأول مرة، ضمن قيادة البلاد المسؤولة عن الكارثة الاقتصادية وطالتهم الانتقادات علانية.
وقد احتدت الانتقادات أكثر مع انفجار مرفأ بيروت عام 2020، إذ ألقى الكثيرون في لبنان باللوم على "حزب الله"، جزئيا على الأقل، لعلاقته بالمخزون الهائل من نترات الأمونيوم، التي انفجرت بعد تخزينها هناك على نحو غير مناسب. ولكن مع تحول نصر الله إلى وجه "الحزب" العلني المعتاد الذي يوصل رسائل "الحزب"، استمر في أداء هذا الدور لأن أي تغير في هذا المنحى قد يوحي ضمنا بأن ثمة فوضى قد حدثت داخل "الحزب".

جالاء ماريه - أ ف ب
جندي إسرائيلي يرتدي سترة تظهر نصر الله هدفا في 4 يناير 2024

يضاف إلى ذلك أن نصر الله لا يحكم "الحزب" بمفرده. فمجلس الشورى الذي يشرف عليه الأمين العام، هو من يتخذ القرارات في "الحزب" بالتنسيق الوثيق مع إيران. ويدير أعضاء هذا  المجلس شؤون "الحزب" السياسية والعسكرية والاقتصادية والقضائية والاجتماعية.
ويتبع "المجلس الجهادي" لمجلس الشورى ويشرف على الأجهزة العسكرية والأجهزة الأمنية. ويضم "المجلس الجهادي" في عضويته ممثلين عن "الحرس الثوري" الإيراني. وفي حين أن "حزب الله" يتمتع بدرجة من الاستقلالية العسكرية من حيث إدارة المعارك على الأرض، فإن القرارات الرئيسة بالانخراط في حرب شاملة والتوسط في السلام يتخذها "الحزب" بالتنسيق مع إيران.
كما يدير "حزب الله" بعض عملياته الداخلية والخارجية بإشراف الوحدة نفسها: أي "الوحدة 910". فهذه الوحدة جزء من الجهاز الأمني وتضم وحدات مسؤولة عن العمليات الخارجية والأنشطة السيبرانية والاتصالات الخارجية. كما أنها مسؤولة عن عمليات "حزب الله" في سوريا، بما فيها أنشطته العسكرية على الحدود السورية-الإسرائيلية، وكذلك أنشطته في أوروبا وأماكن أخرى من العالم. ولكن هذه الوحدة تعمل أيضا داخل لبنان. على سبيل المثال، تتقاطع وحدة العمليات الخارجية التابعة لها مع وحدة العمليات الخاصة، التي كانت تسمى سابقا "قوة التدخل السريع" وباتت تعرف منذ عام 2008 باسم "قوة الحاج رضوان". وقد أدت هذه القوة دورا رئيسا في حرب عام 2006 مع إسرائيل.

شكر كان قائدا رفيع المستوى في "المجلس الجهادي" لـ"الحزب"، وكان مسؤولا عن إحدى وحداته العسكرية المتخصصة في الصواريخ والمدافع

ومن نقاط قوة "حزب الله" كمجموعة مسلحة أنه يجمع في تركيبه بين مكونات الميليشيات والجيوش. وعلى سبيل المثال، فإن الأجهزة الأمنية والعسكرية ولو أنها كيانات مختلفة داخل "المجلس الجهادي"، إلا أن العمليات الأمنية والعسكرية لـ"الحزب" ليست منفصلة ومتمايزة، كما هو حالها في الجيش. ويشرف قادة رفيعو  المستوى في "الحزب" على كلا النشاطين. فتعمل "قوة الحاج رضوان" جنبا إلى جنب مع الوحدات العسكرية ويدربها "الحرس الثوري" الإيراني مباشرة. وعلى نحو مماثل، فإن انتشار "حزب الله" في مناطق الحرب لا يلتزم بانتشار الجيوش، بل يخلط بينه وبين انتشار الميليشيات في حرب غير متكافئة.

أ ف ب
فؤاد شكر في صورة وزعها "حزب الله" بعد أن قتلته إسرائيل في 31 يوليو 2024

ويدرج موقع "مكافآت من أجل العدالة" التابع للحكومة الأميركية مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل سليم عياش- العضو الوحيد في "حزب الله" الذي أدانته المحكمة الخاصة بلبنان عام 2020 لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005– ويصفه الموقع بأنه "عنصر بارز في (الوحدة 121) التابعة لـ(حزب الله)، وهي فرقة الاغتيال التابعة لهذه الجماعة الإرهابية، وتتلقى أوامرها مباشرة من الأمين العام حسن نصر الله". وكما يوحي هذا الوصف، فإن القرارات العملياتية داخل وحدات "حزب الله" لا تقتصر على أوامر قادة الوحدات.

"القادة الكبار"

المرونة والتداخلات الهيكلية تحمي "حزب الله" في حال فقدانه قادة رفيعي المستوى. كما يكيف "حزب الله" هيكليته حسب الظروف الخارجية المتغيرة. واتضح في حالات الوفاة التي طالت ثلاثة من كبار قادته منذ عام 2008. ففي أغسطس/آب 2024، اغتالت إسرائيل قائد "حزب الله" فؤاد شكر، الذي كان مدرجا على قائمة الولايات المتحدة للإرهابيين المحظورين منذ عام 2015، مع مكافأة قدرها 5 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله. ووصف شكر (المعروف أيضا باسم الحاج محسن أو السيد محسن) بأنه في "حزب الله" منذ تأسيسه، حيث قاتل إسرائيل لأول مرة عام 1982.
وزعمت عدة تقارير إعلامية أن شكر كان القائد العسكري الأعلى رتبة في "حزب الله"، لكن هيكل قيادة "الحزب" أكثر تعقيدا في الواقع. صحيح أيضا أن شكر كان قائدا رفيع المستوى في "المجلس الجهادي" لـ"الحزب"، وكان مسؤولا عن إحدى وحداته العسكرية المتخصصة في الصواريخ والمدافع.
وقد أدرجه موقع الحكومة الأميركية الذي يقدم مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن الإرهابيين المعينين على أنه "مقرب من قائد (حزب الله) المتوفى عماد مغنية". وكانت وحدة الصواريخ التي ترأسها شكر تحت القيادة المباشرة لمغنية (المعروف أيضا باسم الحاج رضوان) حتى مقتله في دمشق عام 2008، لمكانته كمستشار عسكري وحيد للأمين العام نصر الله.
لكن هذا لم يكن الدور الوحيد لمغنية، فقد كان يقود "الوحدة 910" وقوة التدخل السريع وقت مقتله. وبعد وفاته، تسلم مصطفى بدر الدين هذا الدور المعقد، ولكن بعد مقتل بدر الدين عام 2016 لم يكن ثمة بديل مباشر له. وبدلا من ذلك، منح دور المستشار لـ"المجلس الجهادي" لـ"الحزب"، المؤلف من عدة شخصيات رئيسة من بينها شكر. وسلمت قيادة "الوحدة 910" إلى طلال حمية، عضو "المجلس الجهادي" الذي يرأس أيضا الجهاز الأمني لـ"الحزب". وقيادة حمية للعمليات العسكرية والأمنية لـ"الحزب" تجعله بحكم الأمر الواقع القائد العسكري الأعلى منصبا داخل المنظمة. وعرضت الولايات المتحدة 7 ملايين دولار مقابله. وتستمر "قوة الحاج رضوان" في التدريب على يد "الحرس الثوري" الإيراني ويقودها هيثم علي الطباطبائي، المدرج أيضا على القائمة الأميركية للإرهابيين المطلوبين بمكافأة قدرها 5 ملايين دولار.
يذكر أن "حزب الله" استخدم وصف "القائد المجاهد الكبير" نفسه (في الأعوام 2008 و2016 و2024) في بياناته التي نعى فيها مغنية وبدر الدين وشكر. ولم يستخدم "الحزب" هذا الوصف للإشارة إلى آخرين، ما يعني ضمنا أن الثلاثة كانوا على القدر نفسه من المكانة العالية، غير أن شكر بخلاف مغنية وبدر الدين لم يكن اسمه معروفا علنا. ولم يكن يعرف به سوى المتابعين للشؤون العسكرية في "حزب الله"، أما عدا ذلك فلم يلفت سوى القليل من الاهتمام. لكن وضع مغنية كان مغايرا. فاسمه معروف عندما كان على قيد الحياة، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن إسرائيل اتهمته بالتورط في تهريب الصواريخ إلى غزة.

زعمت عدة تقارير إعلامية أن شكر كان القائد العسكري الأعلى رتبة في "حزب الله"، لكن هيكل قيادة "الحزب" أكثر تعقيدا في الواقع

بعد اغتياله عام 2008، وصفه "حزب الله" بـ"قائد الانتصارين"، في إشارة إلى دوره المفترض في انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000، وفي الانتصار الذي أعلنه "الحزب" لنفسه في حرب عام 2006. حتى إن الجماعة أعادت تسمية وحدة العمليات الخاصة التابعة لها، التي تشكلت عام 2006، وسمتها باسمه. ولذلك أصبحت الوحدة التي كانت تسمى "قوة التدخل السريع" تسمى "قوة الحاج رضوان" منذ وفاته.

وعلى الرغم من استبدال مغنية ببدر الدين، فإن "حزب الله" لم يخلق لبدر الدين شخصية عامة كالتي كانت لمغنية، لا في حياته ولا عند وفاته. لم يصبح اسمه معروفا علنا إلا بعد أن وجهت المحكمة الخاصة بلبنان لائحة اتهام ضده عام 2011 باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ولاحقا، عندما تدخل "حزب الله" في سوريا، أدى بدر الدين دورا قياديا فيها.

وعلى النقيض من عامي 2000 و2006 (اللذين يعدهما "حزب الله" انتصارين له)، جلبت أنشطة بدر الدين لـ "حزب الله" نوعا سلبيا من الاهتمام، لذلك ظل تركيز الجماعة منصبا على مقتل مغنية وإنجازاته، واستشهد بها في المناسبات الخاصة. وعلى العكس من ذلك، فإن إسرائيل هي التي كشفت عن هويات ضباط "حزب الله" الذين تخلصت منهم.

جاء اغتيال إسرائيل لشكر بعد عمليات قتل استهدفت ضباط ونشطاء "حزب الله" في لبنان وسوريا. ومع أن شكر من كبار القادة، فلا يزال القادة الرئيسون الآخرون مثل طلال حمية على قيد الحياة وبحال جيدة، ويسعون إلى تجنب  المخابرات  الإسرائيلية.

أنور عمرو - أ ف ب
مؤيدات لـ"حزب الله" في مسيرة في بيروت دعما لإيران في 24 مايو 2024

وفي أغسطس الحالي، نشرت منظمة بحثية إسرائيلية أسماء وأدوار من زعمت أنهم أعضاء في "المجلس الجهادي" لـ"الحزب"، إلا أن المعلومات المنشورة ليست كلها متطابقة مع المعلومات الأخرى المتوفرة عن أعضاء "المجلس الجهادي". ويكمن جزء من التناقض في أن "الحزب" يستخدم في كثير من الأحيان أسماء مستعارة لقادته ويسعى إلى الحفاظ على هوياتهم وأدوارهم محاطة بدرجة من السرية لأسباب أمنية، ويرجع جزء منه إلى أن توزيع الأدوار داخل "حزب الله" يمكن أن يتغير ليتكيف مع الظروف الخارجية.

لا شك أن الاغتيالات المنهجية التي تنفذها إسرائيل لكبار قادة "حزب الله" تحد من قدراته، إلا أن هذه الميليشيا لا تزال تتمتع بترسانة عسكرية واسعة وخبرة قتالية لا تقدر بثمن، كما يوفر هيكلها التنظيمي درجة من المرونة بعد خسارة قادتها الأفراد.

والتحدي الرئيس الذي يواجه "الحزب" ليس خطر الانهيار. بل يكمن في أن الاستهداف الدقيق يظهر إلى أي حد اخترقت إسرائيل اتصالاته الداخلية. وما لم ينتهِ هذا الاختراق، وإلى أن ينتهي، ستظل يد إسرائيل هي اليد العليا. ومن المرجح أن يستمر "حزب الله" على المدى الطويل في تعديل بنيته ليحافظ على أهمية سياسية وعسكرية.

font change

مقالات ذات صلة