حقائق مهمة في المشهد السياسي الجزائري، أفرزتها نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي جرت في السابع من سبتمبر/أيلول، أهمها "الهزيمة القاسية" التي مُنيت بها أحزاب المعارضة الجزائرية ممثلة في حركة مجتمع السلم المعروفة اختصارا بـ"حمس" التي يُنظر إليها سياسيا وإعلاميا على أنها الممثل الأبرز للتيارات الإسلامية في الساحة السياسية الجزائرية وحزب القوى الاشتراكية "الأفافاس" الذي يُعرف على أنه أقدم حزب معارض تأسس بعد استقلال البلاد في عام 1962.
وبحسب الأرقام النهائية المعلن عنها من قبل المحكمة الدستورية، فقد حاز الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على الأغلبية المطلقة من الأصوات المعبر عنها، وذلك بـ 7.976.291 صوتا ما يمثّل نسبة 84.30 في المئة، بينما حصل منافساه عبد العالي حساني شريف، على 940642 صوتا أي 9.56 في المئة، فيما حصل مرشح جبهة القوى الاشتراكية، يوسف أوشيش على 580495 صوتا أي بنسبة 6.14 في المئة.
وفتحت هذه الإفرازات الباب واسعا للحديث عن الأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة المؤلمة بالرغم من الحملة الانتخابية النظيفة التي قاما بها والتعهدات والالتزامات التي قدماها وتعهدا بتنفيذها في السنوات الخمس المقبلة.
المقاطعة الجماهيرية
يرى عدد لا يُستهان به من المراقبين السياسيين الجزائريين أن المقاطعة الجماهيرية الواسعة للانتخابات انعكست سلبا على الحزبين إذ تُظهر الأرقام الأولية عُزوفا كبيرا من الكتلة الانتخابية البالغة 24 مليون ناخب عن التصويت، وهو ما يؤكدُ بوضوح استقالة الشعب من العملية السياسية وعدم ثقته في السياسيين وبحثه بشكل برغماتي عن آليات جديدة للتعبير خارج المنظومة التمثيلية أي عبر المجتمع المدني غير الرسمي وهُو ما يُعرف حسب البروفيسور نور الصباح عكنوش، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة بـ"الديمقراطية التشاركية باستخدام أدوات مبتكرة للحضور والتأثير بدل الانتخاب المباشر".
وقد بلغت نسبة المشاركة النهائية 46.10 في المئة، حيث قدر عدد المصوتين بـ11 مليونا و226 ألفا و65، بينما بلغ عدد الأصوات الصحيحة 9.46 مليون صوت، ولعل اللافت في النتائج النهائية التي أعلنتها المحكمة الدستورية هو العدد المرتفع للأوراق البيضاء والملغاة حيث تجاوزت مليونا و 764 ألف شخص، وهؤلاء لم يقاطعوا الاقتراع بل صوتوا، وهناك من المحللين السياسيين من يرى أن الأوراق البيضاء والملغاة أصبحت بمثابة حزب منافس يفرض نفسه بقوة في كل موعد انتخابي، فقد تفوق حتى على منافسي الرئيس عبد المجيد تبون اللذين حصلا معا على مليون و521 ألفا و137 صوتا.
ويقول المحلل السياسي والباحث الاجتماعي احسن خلاص في تعليقه على هذه الأرقام إن "حزب الأوراق الملغاة قائم منذ انتخابات 2017 بالعدد نفسه تقريبا"، ويُوضح في حديثه لـ"المجلة" قائلا إن "هذه الكتلة في الغالب من المصوتين غير الراضين عما يطرحُ في السوق الانتخابية من بضاعة".
ومن الأسباب التي جعلت المواطنين الجزائريين يفقدون الثقة في الأحزاب السياسية ولا يؤمنون بقدرتها على التغيير السياسي، تكريس ظاهرة الأحزاب "المناسباتية" التي تنشط في فترات محدودة جدا ولا يظهر أثرها خارج المواعيد الانتخابية. والأسوأ في هذا كله أنها تفتقر لبرنامج سنوي يطمحُ مؤسسوها فقط إلى الوصول للسلطة والحصول على بعض من مكاسبها وجوائزها عكس ما نلمحهُ في الدول التي تشتهرُ ساحاتها السياسية بأطول الأحزاب عمرا.
وقد يشكل هذا التراجع اللافت رد فعل تلقائيا من الناخبين على مستوى الخطاب السياسي. ويقول في هذا السياق المحلل السياسي نور الصباح عكنوش إن "الأحزاب المشاركة لم تنجح في إنتاج خطاب مقنع للرأي العام على صعيد الأفكار والبرامج فهي تعيدُ تقديم الأدبيات المتكررة نفسها والتي تم استهلاكها في الماضي ولم تعد صالحة إطلاقا للسياق الراهن وهو أحدث قطيعة فكرية ونفسية بينها وبين المواطن الجزائري" ويُشير إلى أن "لأحزاب الحالية تُعاني في بنيتها التقليدية ولم تتطور في مشاريعها وخطابها فهي تحتاج إلى إصلاح داخلي وعميق".
الفراغ السياسي
وتُعزى الهزيمة إلى سبب آخر يمكن القول إنه "تراكمي"، ويتمثل في الفراغ السياسي الذي ترتب على سلوكالمقاطعة الذي انتهجته الأحزاب لأكثر من عقدين من الزمن، مُبررة موقفها بـ"التزوير" وبأن "الاستحقاق محسوم مُسبقا" وأنها تسعى لمعاقبة السلطة على "تزويرها"، فمثلا "جبهة القوى الاشتراكية" اكتسبت تسمية "شيخ المقاطعين" نظرا لعدد المرات التي أشهرت فيها ورقة المقاطعة في وجه السلطة، حيث أحصت الجبهة ثمانية مقاطعات على التوالي وهي محليات 1990 (انتخابات المجالس الشعبية البلدية)، رئاسيات 1995 ومن ثم انسحاب آيت أحمد من رئاسيات 1999، وتشريعيات ومحليات 2002، ورئاسيات 2004، ورئاسيات 17 أبريل/نيسان 2014، والأسلوب نفسه انتهجته في الاقتراع الرئاسي الذي أجري في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 ومن ثم الانتخابات البرلمانية المسبقة والتي نُظمت في 12 يونيو/حزيران 2012.