الاقتصاد المصري يصارع "الأموال الساخنة" والفوائد وحروب المنطقة

كيف تؤثر التوترات الجيوسياسية والتضخم في تدفقات العملات الأجنبية وخيارات القاهرة الاقتصادية؟

Shutterstock
Shutterstock
أوراق من الجنيه المصري

الاقتصاد المصري يصارع "الأموال الساخنة" والفوائد وحروب المنطقة

تراهن مصر بين الحين والآخر على "الأموال الساخنة"، (Hot Money) وهي استثمارات أجنبية غير مباشرة في أذون وسندات الخزانة المصرية، وتعتبر مساعدة الى حد ما في استقرار سعر الجنيه على المدى القصير الأجل، وتُستَقطب بفضل جاذبية معدلات الفائدة المرتفعة، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية في بلد ما سعياً إلى تحقيق أرباح مرتفعة في فترة قصيرة، لتهرب عند أول مؤشر للخطر، وهي تشمل المضاربات السريعة بالعملات الأجنبية.

ومع رفع الحكومة المصرية أسعار المحروقات نهاية يوليو/تموز المنصرم، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي لصرف الشريحة الثالثة من قرضه لمصر، وقيمتها 820 مليون دولار، سارعت تلك الأموال مرة أخرى إلى النزوح من الأسواق المصرية، بنحو ثمانية في المئة، من الأموال الإجمالية التي دخلت بعد تحرير سعر الصرف في مارس/آذار 2024، وفق رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي.

رفع معدلات الفائدة

وليس خروج "الأموال الساخنة" مقتصراً على مصر، إذ شهدت وتشهد كثير من الدول هذه الاستثمارات السريعة، وخصوصاً بعد التراجعات الحادة لأسواق المال والسلع والمعادن في وقت سابق، وفق مدبولي، الذي لفت إلى أن الأموال التي خرجت من مصر كانت "على سعر صرف مرتفع". ونتيجة لاستحقاق بعضها، بدأ جزء منها في الخروج من السوق المصرية، مما رفع بدوره معدلات الفائدة المطلوبة من المستثمرين، وزاد تكاليف الاقتراض.

ينبئ خروج "الأموال الساخنة" بمخاوف من حدوث فجوة بين العرض والطلب، ولا سيما مع تعاظم متطلبات مصر الكبيرة من النقد الأجنبي نظرا لارتفاع فاتورة الاستيراد

لجأت الحكومة المصرية إلى اتخاذ عدد من الإجراءات للسيطرة على الاستقرار المالي، من خلال تنويع الأدوات ودرس آليات عمل الصكوك في السوق المحلية، وثمة تيسير للاستثمار وتدفق رؤوس الأموال وتحسين الخدمات للمصدرين، وجذب لمزيد من الاستثمارات الخليجية في الآونة المقبلة وفق وزير المالية أحمد كوجاك. لكن الحكومة سرعان ما رفعت معدلات الفائدة على أذون الخزانة على العمليات الأساسية بين 27 و28 في المئة، وذلك تحت وطأة الضغوط الجيوسياسية، وهروب "الأموال الساخنة" في شكل خاص من الدول التي تجاور مناطق تسودها نزاعات، على الرغم من أن نسب خروجها تُعَد أقل، مقارنة بها عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

أمواج "الأموال الساخنة"

يُشار إلى أن مصر تأثرت سلباً خلال موجة "الأموال الساخنة" في الفترة من 2020 الى 2022 قبل أن يشدد مجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي السياسة النقدية فعادت الأموال إلى ديارها متخارجة من السوق المصرية بتكاليف كبيرة أدت إلى شح كبير في السيولة النقدية باحتياطات العملات، مما مهد إلى تعويم الجنيه وفقدانه كثيراً من قيمته وفجّر موجة تضخمية لم تنتهِ تبعاتها السلبية حتى الآن. وكان وزير المالية السابق محمد معيط قد وعد بعدم الاعتماد على "الأموال الساخنة" لما ألحقته بالاقتصاد من ضرر. ويُشَار إلى نزوح 22 مليار دولار من السوق المصرية في يونيو/حزيران 2022 قبل أن تعود الى التدفق.

Shutterstock
معاناة البورصة المصرية

ينبئ خروج "الأموال الساخنة" بمخاوف حدوث فجوة بين العرض والطلب، ولا سيما مع تعاظم متطلبات مصر الكبيرة من النقد الأجنبي نظرا لارتفاع فاتورة الاستيراد، إلا إنها استطاعت أن توفر جزءاً من حاجات الاستيراد عقب حصولها على الشريحة الثالثة من قرض الصندوق. ومن المزمع إتمام المراجعة الرابعة لبرنامج تمويل التسهيل الممدد مع القاهرة خلال الفترة من 15 سبتمبر/أيلول وحتى نهاية السنة الجارية، ومع استكمال المراجعة سيُسمَح بصرف 1.3 مليار دولار من القيمة الإجمالية لبرنامج مصر مع الصندوق، التي تمثّل الشريحة الكبرى من بين مختلف الشرائح وفق تصريحات لرئيسة بعثة الصندوق في مصر إيفانا فلادكوفا هولار.

أثر ارتفاع أسعار المحروقات في مصر كان كبيرا ونجم عنه أثر سلبي تمثّل في خروج بعض "الأموال الساخنة" في ضوء زيادة معدل التضخم وسعر الصرف الحقيقي

مدحت نافع، خبير في الاقتصاد والمال

استثمارات سعودية مباشرة

ويعكس الوضع الحالي إقبال مصر على استثمارات مباشرة من المملكة العربية السعودية، أعلنتها المملكة بتحويل الوديعة التي تُقدَّر قيمتها بـ10 مليارات دولار إلى استثمارات مباشرة، مما أدى الى خفض المديونية في المصرف المركزي، وخفض حجم الدين العام الخارجي بما يوازي هذه القيمة، وربما 14 مليار دولار، في حال استكمال برنامج الطروح الحكومية والاستحواذات لبيع أصول الدولة واستقطاب استثمارات جديدة. لكن تعاكسها حتى الآن الأوضاع الجيوسياسية غير المواتية والتصعيد المستمر في المنطقة، وتراجع دخل قناة السويس.

في هذا السياق، أشار الدكتور مدحت نافع الخبير المالي والاقتصادي في حديث إلى "المجلة" إلى أن أثر ارتفاع أسعار المحروقات في مصر "كان كبيراً ونجم عنه أثر سلبي تمثّل في خروج بعض من الأموال الساخنة في ضوء زيادة معدل التضخم وزيادة سعر الصرف الحقيقي الذي يعرف من خلاله المستثمر تحركات سعر الصرف المستقبلية، وهذا يفرض بالتالي مزيداً من الضغط الصعودي على معدل التضخم، مما يقلل قيمة الجنيه أمام الدولار". وقال إن المستثمر في الأموال الساخنة "دائماً ما يطلب مزيداً من رفع معدل الفائدة". 

وأوضح نافع أن العطاءات الجديدة في فترة من الفترات التي كانت تطرحها البلاد "لم تلق إقبالاً نظراً إلى أن معدل الفائدة الذي يطالب به المستثمر الأجنبي أكثر من المعروض، نظرا الى الأخطار وتراجع قيمة الجنيه". مشيرا الى أن "الوتيرة تسير ببطء، بينما رفع الأسعار كالمحروقات والخبز والطاقة يسير بسرعة كبيرة". وأضاف "أن عدم التماثل في السرعات أو عدم الملاءمة في سرعة كل مسار من مسارات البرنامج الإصلاحي لصندوق النقد، ربما تأتي على المواطن بالأثر السلبي من دون الأثر الإيجابي".

خرجت من مصر أموال ساخنة بقيمة ملياري دولار خلال أغسطس/آب 2024، وفي حال خروج ما يصل إلى 5 مليارات دولار ستظل مصر في وضع آمن

محمد عبد العال، خبير مالي

وأكد الدكتور محمد عبد العال الخبير المالي لـ"المجلة" "أن الاقتصاد الأميركي هو مصدر التقلبات في أسواق المال العالمية، وفي ظل التوترات الجيوسياسية العالمية التي تشهدها المنطقة تخرج الأموال الساخنة من دول العالم كلها وليس في مصر فقط". وقال "خرجت من مصر أموال ساخنة بقيمة ملياري دولار خلال أغسطس/آب 2024، وفي حال خروج ما يصل إلى 5 مليار دولار ستظل مصر في وضع آمن".

35 مليار دولار "ساخنة" تديرها مصارف كبرى

لماذا تعتمد مصر على تلك الأموال؟ ألمح عبد العال إلى أنها "منتج يجب عدم إغفاله، لكن الخطورة في آلية استخدامها في تمويلات مشاريع بعيدة الأجل، إذ يجب استخدامها فقط في تمويلات قريبة الأجل، وإذا حدث خروج لتلك الأموال تكون القطاعات جاهزة ولا تسبب الخطوة سيناريوهات مقلقة"، مشيراً إلى أن الأموال الساخنة تنشط وتقبل على المخاطر لارتفاع عوائدها.

Shutterstock

وتقدر "الأموال الساخنة" في مصر، بحسب عبد العال، بنحو 35 مليار دولار تديرها مؤسسات ومصارف عالمية كبرى، لا الأفراد، وتتميز ثقافتها بإدارة الأخطار المرتفعة، التي تعني إيرادات أكثر، وكذلك الانتقال من سوق إلى أخرى لتحقيق العوائد. واعتبر "أن التقييمات العالمية لخفض معدل الفائدة عالمياً على الدولار ستكون في صالح الجنيه المصري، مع ارتفاع مؤشرات وكالات التصنيفات العالمية التي رفعت النظرة المستقبلية من مستقرة إلى إيجابية في حين بدأت تنخفض الأخطار على تكلفة التأمين على السندات، "فبدأت تزداد الأموال الساخنة على التدفق في شرايين الاقتصاد".

سيواجه المصريون تباطؤا في الإنفاق الشخصي، حتى نهاية السنة الجارية في انتظار انتهاء العاصفة الملمة بالمنطقة

هاني جنينة، خبير مالي

ورأى الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور طاهر مرسي أن "قرارات وزير الصناعة الأخيرة الخاصة بعدم إغلاق أي منشأة صناعية إلا بموافقة حكومية، فضلاً عن تذليل العقبات والتحديات التي تعيق عمل المستثمرين، بما يساهم في النهوض العاجل بالصناعة المصرية، تمثل بارقة أمل وخطوة في الاتجاه الصحيح لإنعاش القاعدة الصناعية التي تمثل المصدر المستدام للعملات الأجنبية وتمثل طمأنة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، كما تمثل مكافحة البيروقراطية والفساد أحد أهم معوقات الاستثمار والصناعة والبديل الصحي الوحيد للأموال الساخنة".

دور الحرب بين إسرائيل و"حماس" و"حزب الله"

وفي المقابل، أشار هاني جنينة الخبير المالي في حديث إلى "المجلة" إلى صعوبة أي تدفقات نقدية ودخول مستثمرين جدد بأموال ساخنة إلى مصر في الوقت الحالي نتيجة التوترات في المنطقة باعتبارها جارة قريبة للنزاعات، ولا سيما الحرب بين "حماس" وإسرائيل، متوقعاً خسائر محتملة من طريقين: "الأول عن تحرك سعر الصرف بحركة مفاجئة على الرغم من عدم ترجيح هذا الأمر حاليا، لكن ربما يحصل بسبب ضغوط مفاجئة. والخطر الثاني الذي يعتري المستثمر يتمثل في تخوفه من توسيع "حزب الله" اللبناني عملياته، وتدخل دول أخرى كاليمن في الحرب بما يفاقم توترات البحر الأحمر، ذلك أن إطالة أمد النزاع تعرض المستثمر إلى خسائر جمة". 

ونبّه جنينة إلى "أن امتداد النزاع وشموله إيران وإسرائيل سيعمق الأثر السلبي في إيرادات مصر من قناة السويس وفي قطاع السياحة، إضافة إلى مشكلة الغاز الطبيعي وتوليده، إذ سيجد المستثمر الأجنبي صعوبة في الدخول إلى الأسواق المصرية". وقال: "عندما يحدث نقص مفاجئ في عرض الدولار لا بد أن يواجهه تشدد مقابل في المعروض من الجنيه المصري، وعلى رغم أن هذا الكلام قوله سهل يكون تنفيذه أحياناً صعباً، لأن تلك الخطوة تُعتبَر إيقافاً لعجلة الاقتصاد عن عمد حتى تستقر المتغيرات الاقتصادية". ولفت الى أن المصريين، سيواجهون تباطؤاً في الإنفاق الشخصي، حتى نهاية السنة الجارية وبداية السنة المقبلة في انتظار انتهاء العاصفة الملمة بالمنطقة.

font change

مقالات ذات صلة